ثمة خليط من الأسف والإنكار. أعتقد أن هذا ما ينتاب مشاعر آلاف الخريجين والخريجات من الجامعة اللبنانية، وأنا منهم، حين نتابع فضائح التزوير والرشاوى ومافيات التلاعب والتلفيق بالشهادات، في بعض كليات الحقوق والآداب وغيرها.
نحن، لا أدري كم عددنا وحجمنا، لكننا حتمًا عشرات آلاف الخريجين، من أجيال متعاقبة، كانت الجامعة اللبنانية حلمنا وأملنا الوحيد للخروج إلى العالم.
ليس فقط لأننا أبناء طبقات عاملة وفقيرة، ولا لأننا لم نملك يومًا رفاهية أثرياء هذا البلد الذين انقضّوا على مقدراته، ودمّروا التعليم الرسمي مقابل تغذية "دكاكين" التعليم الجامعي الخاص. ولا لأننا عجزنا عن الالتحاق بكبريات جامعات هذا البلد، التي بقيت أيضًا شبه محتكرة للأغنياء وأبناء الطبقة الحاكمة والأحزاب السياسية والطائفية... ليس، وليس.
كانت الجامعة اللبنانية بالفعل حلمًا، وصرحًا أكاديميًا كنا نراه كبيرًا. وتحديدًا نحن أبناء جيل الثمانينيات، وأبناء مطلع ومنتصف التسعينيات، الذين واكبوا الجامعة وتخرّجوا منها قبل لحظة انهيارها الكبير في خريف 2019، بعد الانتفاضة.
لكن هذه الجامعة الرسمية، تشبه الدولة إلى حدٍّ كبير، بل هي مرآة لها بكل ما فيها من طائفية ومحاصصة وفساد وتركيبات هجينة.
لذا لم يكن انهيارها حدثًا مفاجئًا أو طارئًا، بل كان انفجارًا حتميًا وطبيعيًا.
بيد أن الفارق كان كبيرًا بين الدولة، وبين الجامعة الرسمية الوطنية، التي هي في نهاية المطاف جامعة الدولة. لأنها فعلًا كانت جامعة لكل اللبنانيين واللبنانيات، وطوق النجاة للذين ضاقت بهم السبل في الجامعات الخاصة أو إلى الخارج.
لكنها أيضًا كانت الجامعة "الصعبة"، التي لا ينال شهادة منها إلا الكفوء والمجتهد. أتذكر جيدًا أصدقاء وزملاء اضطروا للتسجيل في جامعات خاصة ثمة شكوك حول جودة شهاداتها، لأنهم مثلًا غير قادرين على الالتحاق بكلية الهندسة في الجامعة اللبنانية، فيما آخرون اضطروا للتسجيل في جامعات خاصة – كانت أشبه بالدكاكين – لنيل شهادة الماجستير، لأنهم غير قادرين على نيلها من اللبنانية.
مئات الأساتذة في الجامعة اللبنانية بقوا راسخين في ذاكرة طلابهم، وكان لهم أثر بالغ في نموهم الأكاديمي والثقافي.
كنا نشعر بأن ثمة أساتذة يشبهوننا إلى حد بعيد ونشبههم. ومع ذلك، كنا نرى أن ثمة أساتذة غير أكفاء، وكنا نسمع عن بعض حالات التزوير حين كنا طلابًا، لكن الحديث عنها كان بالألغاز ومحظورًا كأنه تابو. ليس لأن الأمر سرٌّ، بل لأن التبجّح به كان سيترك وقعًا صادمًا. خصوصًا أن الكادر الجامعي – إدارةً وأساتذةً ورؤساء أقسام وكليات وطلابًا – كانوا يحرصون على هيبتها، وعلى هيبة مقولة "نحن أبناء الجامعة اللبنانية".
لكن بعد الانهيار، وإن كان ما نسمعه ونراه من تزوير في العلامات وتحويل بعض فروع الكليات إلى سوق سوداء للشهادات، قد باتت المجاهرة به أكثر وضوحًا.
أتذكر ما أخبرني به بعض الزملاء في الجامعة قبل نحو عامين، عن مكتبة تبيع كتبًا أكاديمية ومراجع بحثية، يتردد إليها بعض الأساتذة الجامعيين، ويعرضون على الطلاب – تحت مسمى "المساعدة والإسراع في الإنجاز" – أن يكتبوا لهم رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه مقابل بدل مادي. وكانت هذه إحدى تداعيات انهيار قيمة رواتب الأساتذة على بعض النفوس الضعيفة.
فهل تتخيلون وقع مثل هذه العروض على طلاب منهكين أصلًا من برامج أكاديمية غير محدّثة، ومن ضغوط هائلة لأنهم يعملون ويتعلمون في آن؟
المؤسف في كل هذا، وفي كل ما نتابعه من فضائح التزوير في بعض فروع الجامعة اللبنانية، أنها تشكل إهانة لأجيال متعاقبة من الطلاب والطالبات الذين تخرجوا منها بكفاءتهم واستحقاقهم الذاتي. كما أنها تهتك بكل الأساتذة الذين عملوا بضمير وإخلاص في هذه الجامعة.
خلافًا للجامعات الخاصة، كان دائمًا تصديق شهادات الجامعة اللبنانية هو الأسهل والأيسر، وكانت مؤسسات العمل والجامعات في الخارج تتعامل معها بدرجة عالية من الثقة والمصادقة ومن دون شكوك.
أما ما يحدث اليوم، أو المجاهرة بما كان يحدث منذ سنوات، فقد تكون له تبعات خطيرة على جميع الطلاب والخريجين، بعدما صارت سمعة الجامعة وشهاداتها وآليات التخرج منها موضوع شكّ وتساؤل.
قد يكون ما نشهده ثمنًا لتدمير الجامعة اللبنانية، الذي خضع لهندسة دقيقة وممنهجة منذ عقود، لأنها في نهاية المطاف ابنة دولة الاستقلال، وصورة لنظام المحاصصة فيها.
لكن هذه الجامعة تدفع أيضًا ثمن غياب أي حراك طلابي فعال، مقابل حصار الأساتذة الأكفاء فيها بنظام المحاصصة السياسية والطائفية.
وربما أيضًا كان من الطبيعي أن نلمس نتائج الانهيار وحجم الأضرار في النظام الأكاديمي، وقد تجلى هذا الواقع بصورة أسرع في الكليات الاجتماعية والإنسانية والحقوقية، عمّا هو عليه في كليات الهندسة والعلوم والطب.
في نهاية هذا المطاف، يبدو أن الأسف والإنكار سيلزمان مشاعر أجيال من خريجي هذه الجامعة، لأن إنقاذها من هذا الواقع صار ملازمًا لإنقاذ الدولة حتى كفكرة ومفهوم.
نحن فعلًا نعيش في "دولة فاشلة".
يكفي أن نسمع هذا التعبير من الدبلوماسي الأميركي الفاشل توم باراك، الذي يحترف توجيه الإهانات إلى اللبنانيين وهو يتردد إلى بلدهم.
تجليات الفشل صارت كثيرة، ليس بسبب النظام المصرفي الذي رعته وحمته بلاد توم باراك لعقود فحسب، بل لأن انهيار هذا النظام كان كاشفًا لانهيار معنى الدولة وكل مؤسساتها، وهو يبلغ ذروته اليوم في بعض فروع جامعتنا الوطنية.
