بعد الحرب التي أنهكت الجنوب اللبناني، لم يسلم القطاع الرياضي من تداعيات الدمار والانقطاع الطويل عن العمل. الملاعب التي كانت تضجّ بالحياة تحوّلت إلى ساحات صامتة، والقاعات الرياضية التي كانت متنفّساً للشباب أُقفلت أبوابها بسبب غياب الدعم والإمكانات. فبين الدمار المادي والتراجع الاقتصادي، وجد الرياضيون أنفسهم أمام واقع قاسٍ يهدّد استمرارية النشاط الرياضي في المنطقة.
"الرياضة هي متنفّسي الوحيد". بهذه الجملة يختصر مهدي فقيه، الشاب العشريني، علاقته بالرياضة، وتحديداً كرة السلّة، كلاعب ضمن فريق "سونيكس" للكراسي المتحرّكة. يقول فقيه في حديثه إلى"المدن": "كرة السلّة كانت بوابتي للعالم، وهو المكان الذي لا تطاردني فيه نظرات الشفقة. أنا لاعب محترف، لا أختلف عن أيّ لاعب آخر لا يعاني إعاقة جسدية."
ويضيف: "دخلت عالم الرياضة قبل ثلاث سنوات بتشجيع كبير من عائلتي. كان والدي يتولّى مهمّة إيصالي من بلدة كفرتبنيت إلى النادي في النبطية قبل الحرب لأتلقى التدريبات اللازمة. لكن بعد اندلاع الحرب واضطرارنا للنزوح، انقطعت عن الرياضة. وعندما عدنا بعد وقف إطلاق النار، كان أوّل مكان قصدته هو النادي في النبطية، لأتفقّد حاله، لكنني وجدته مدمّراً بالكامل وغير صالح للتدريب. اضطررت حينها للانتقال إلى نادٍ آخر في بلدة أنصار، حيث أتابع تماريني حتّى اليوم، لأن النادي الأساسي لم يُرمّم بعد."
يشير علي خليفة، رئيس نادي الصرفند، إلى أنّ "معظم الملاعب الرياضية في الجنوب تضرّرت أو دُمّرت على نحوٍ مباشر خلال الحرب، وهذه كانت أولى المشكلات التي واجهناها. القاعة الرياضية المقفلة في الصرفند أصيبت بأضرار جسيمة، وكذلك ملاعب في حبّوش ومناطق أخرى. ونتيجة لذلك، وجد اللاعبون والشباب أنفسهم بلا أماكن لممارسة الرياضة، فاتجه بعضهم نحو مقاهي الإنترنت والأرغيلة. ويضيف خليفة أنّه رغم بدء بعض البلديات، بالتعاون مع مجلس الجنوب، بإعادة تأهيل الملاعب والقاعات، إلا أنّ "الرياضة في الجنوب تراجعت بنسبة تفوق 50% مقارنة بما قبل العام 2020، بسبب الحرب والوضع الاقتصادي وأزمة كورونا، التي أثّرت جميعها على الأندية وإمكاناتها في الاستمرار ودعم الشباب."
ويشير إلى أنّ أحد أكبر التحديات يتمثل في غياب أماكن آمنة لممارسة الرياضة، خصوصاً أنّ معظم القرى الجنوبية تضرّرت أو فقدت بنيتها الأساسية، وهو ما حدّ من قدرة الأندية على تدريب اللاعبين وتنظيم الأنشطة المنتظمة.
واقع الأندية الرياضية وتراجع النشاط
أما المدرّب الرياضي، بلال ترمس، فيؤكد أنّ الأزمة لا تقتصر على البنية التحتية فقط؛ بل تمتدّ إلى واقع الأندية نفسها: "لدينا في الجنوب ما يقارب 30 إلى 40 نادياً لكرة الطاولة، و25 نادياً لكرة الطائرة، و20 نادياً للشطرنج، لكن جميع هذه الأندية تضررت وتراجعت بعد أزمة كورونا بسبب غياب الدعم والإمكانات. اليوم، لا نشاط فعلياً يُذكر سوى في كرة القدم؛ إذ تبقى ثلاثة أندية فقط قادرة على الاستمرار بجهود شخصية من رؤساء الأندية أو بعض الممولين."
ويضيف ترمس: "الجنوب يضم نحو 365 بلدة، ومع ذلك لا يُمارس النشاط الرياضي فعلياً إلا في عدد محدود جداً من المناطق. في الزهراني مثلاً لا يوجد سوى ناديين ناشطين لكرة الطاولة، وفي النبطية نادٍ واحد فقط. أما في كرة الطائرة، فالوضع مشابه تماماً؛ إذ لا يوجد في الجنوب كله سوى نادٍ واحد من الدرجة الأولى هو نادي الرسالة الصرفند."
ويؤكد أنّ الأندية اليوم بحاجة ماسة للدعم المالي والتجهيزات الأساسية؛ إذ إنّ بعض الأندية غير قادرة حتى على تسديد رسوم اشتراكها السنوي في الاتحاد، والتي لا تتجاوز 500 دولار، وهو ما أدّى إلى تعليق رخصها ووقف نشاطها بالكامل.
محاولات فردية لإحياء النشاط
في مواجهة هذا الواقع، برزت مبادرات شبابية تحاول إعادة الحياة إلى الرياضة في الجنوب. من أبرزها مبادرة “Nabatieh Go Bike” التي أسسها الشاب رضا عبدالله، الذي تحدث إلى"المدن": "بعد الحرب، دمار النبطية أثّر فيّ شخصياً على نحوٍ كبير، خصوصاً بعد أن بدأ أصدقائي يخافون من الخروج بسبب القصف المتكرر. لكن رؤية المدينة مدمّرة لم تُحبطني؛ بل زادتني إصراراً على أن أُثبت أنّ الحياة مستمرة. بدأت المبادرة بست دراجات فقط، وسط تحذيرات الجميع من القدوم إلى النبطية، لكننا استمرينا، نظمنا جولات وفعاليات، وأثبتنا أنّ النبطية بخير وأن سكانها يعيشون ويواصلون نشاطاتهم."
ويضيف: "اليوم، أصبحت النبطية محطّة لقاء رئيسة لكلّ الدراجين في الجنوب اللبناني. ننظم ثلاث جولات أسبوعياً، ونتلقى مشاركين من مختلف المناطق. كما أنّنا بصدد تأسيس جمعية تضم عدداً من الأعضاء الناشطين لدعم الشباب وتعزيز النشاط الرياضي في المنطقة."
وفي تصريح رسمي لـِ "المدن"، أكدت وزارة الشباب والرياضة اللبنانية أنّه، "على الرغم من الظروف الصعبة التي يمرّ بها الجنوب اللبناني، نلاحظ أن القيّمين على الرياضة يبذلون جهوداً كبيرة للنهوض بهذا القطاع. وقد نُفّذت خلال العطلة الصيفية العديد من الأنشطة الرياضية، حيث نشطت الأكاديميات الخاصة في معظم المناطق البعيدة نسبياً عن الحافة الأمامية. وشملت هذه الأنشطة عدداً من الألعاب بمشاركة أندية من مختلف المناطق الجنوبية".
ووفق التصريح، "قامت بعض البلديات بتنظيم فعاليات رياضية تهدف إلى إبراز دور الرياضة كرافعة اجتماعية وداعمة لصمود الأهالي وتمسّكهم بأرضهم. ويمكننا القول إن الحركة الرياضية في الجنوب استعادت نحو 50% من نشاطها السابق."
في المقابل وفق التصريح نفسه، "تعرّضت معظم المنشآت الرياضية الواقعة على الحافة الأمامية، وفي عدد من القرى الجنوبية الأخرى، لدمار شبه كامل. ويتم حالياً التركيز على إعادة تفعيل بعض المنشآت في مناطق الصرفند وأنصار والنبطية، ومنها ملاعب في بلدة حبوش".
ويشير المصدر نفسه إلى أنه، كُلّف مجلس الجنوب بإجراء إحصاء شامل للأضرار التي طالت المنشآت الرياضية، إلا أننا لم نتسلّم حتى تاريخه النتائج النهائية للمسح.
كذلك، شملت الجهود الرسمية اتصالات ومساعي للحصول على هبات من بعض الدول، لا سيما من العراق، للإسهام في إعادة إعمار بعض المرافق الرياضية المدمّرة في الجنوب، إلا أنّ هذه المساعي توقّفت في الوقت الراهن لأسباب معروفة لدى الجميع.
الرياضة بوصفها أداة للتعافي
تُظهر هذه المبادرات والجهود الرسمية كيف يمكن للنشاطات الرياضية أن تكون أداة للتعافي الاجتماعي والنفسي بعد الحرب. فإعادة فتح القاعات والملاعب وتنظيم الفعاليات الرياضية، حتى على نحوٍ محدود، يوفّر متنفّساً للشباب، ويعيد جزءاً من الحيوية للبلدات المتضررة. كما تسهم هذه الأنشطة في تعزيز الوعي بأهمية الرياضة كأسلوب حياة، بعيداً عن المخاطر والفراغ الذي قد يدفع الشباب نحو السلوكيات السلبية.
وبالرغم من كل التحديات، من نقص التمويل وصعوبة صيانة المنشآت إلى غياب البنية التحتية في بعض القرى، يبقى المشهد الرياضي في الجنوب شاهداً على إرادة الحياة. فالشباب والناشطون الرياضيون لا يزالون مصرّين على إعادة النبض إلى الملاعب والنوادي، مؤمنين بأن الرياضة ليست ترفاً؛ بل وسيلة للبقاء والصمود في وجه الحرب والخراب.
