موسوعة إيلون ماسك الجديدة: أعلى مراتب التحيّز

نافع سعدالأحد 2025/11/02
ايلون ماسك
حين يحتكر ملياردير واحد "حزمة من الحقائق الجاهزة"، تكون النتيجة مزيداً من التجهيل.
حجم الخط
مشاركة عبر

أطلقت شركة xAI التابعة لإيلون ماسك مشروعاً جديداً باسم "غروكيبيديا" (Grokipedia)، وهي موسوعة مدعومة بالذكاء الاصطناعي تهدف إلى منافسة ويكيبيديا. وقد قدّمها ماسك بوصفها بديلاً "صادقاً" لويكيبيديا، مؤكداً أنه أرجأ إطلاقها "لتنقيتها من الدعاية".
 لكن تقارير مبكرة تشير إلى أن غروكيبيديا مشبعة بتحيّزات أيديولوجية. إذ رصدت بعض هذه التقارير أن مقالة "العبودية" في الموقع تعيد إنتاج خطاب مؤيد للعبودية من القرن التاسع عشر، مقدّمة إياها على أنها تطوّرت من "شرّ ضروري" إلى "خير إيجابي". كما حذّرت تقارير أخرى من أن بعض المواد "تنحرف فجأة نحو خطاب يميني متطرف"، وأن بعضها يتضمّن مضامين عنصرية ورهاب المتحوّلين جنسياً. تعكس المنصّة بشكل عام رؤية محافظة متشددة، على نحو يفتقر إلى الحياد الموسوعي.

 

الأيديولوجيا بوجهها العاري

لا تخفي موسوعة ماسك الجديدة انحيازها. فعلى سبيل المثال، لا تكتفي مقالة "العبودية في أمريكا" بعرض الوقائع التاريخية، بل تكرّس صفحات طويلة لتبريرات أيديولوجية قديمة، من بينها مقولة "الخير الإيجابي". ثم تبذل جهداً خاصاً في مهاجمة الأفكار المخالفة. بهذه الطريقة يُعاد تقديم موضوع تاريخي حساس بمنظور أحادي واضح.

 

حتى القضايا الاجتماعية المعاصرة تُعالج بالطريقة نفسها. فعند البحث عن "الزواج المثلي" في غروكيبيديا، يقترح النظام مقالاً عن "الأفلام الإباحية المثلية" بدلاً منه، زاعماً أن الإباحية "فاقمت" وباء الإيدز في ثمانينيات القرن الماضي. بل إن النص يذهب أبعد من ذلك، إذ يحمّل مسؤولية انتشار فيروس HIV لعادات مشاهدة الأفلام الإباحية لدى الرجال المثليين، إلى حدّ يوحي بأن كاتبه يعتقد حقاً أن الفيروس ينتقل عبر الشاشة، لا عبر سوائل جسدية، كما تؤكد جهات طبية موثوقة مثل (CDC) ومعها بقية الكوكب.

 

أما في موضوع المتحوّلين جنسياً، فتتبنّى غروكيبيديا خطاباً معادياً. فهي تكرّر استخدام مصطلح "ظاهرة التحوّل الجنسي" (Transgenderism)، وهو توصيف مهين يثير حفيظة الأكاديميين. كما تسمى النساء المتحوّلات على المنصة بأنهن "ذكوراً بيولوجيين" يهددن سلامة "النساء الحقيقيات".
 ولا يكتفي الموقع "الموسوعة" بذلك، بل يتّخذ نبرة الواعظ ويحذّر من أنّ وسائل التواصل الاجتماعي تشكّل "عدوى" تدفع مزيداً من الناس إلى تحديد هويتهم كمتحوّلين، في إعادة تدوير رخيصة لنظرية "العدوى الاجتماعية" التي دُحضت علمياً. بهذه اللغة الإنذارية المتشددة، تُهمّش العلاقات المثلية وتُختصر بالإباحية المثلية، وتُوصم الهويات العابرة للجنس بالمرض.

 

العلم الزائف بثوب رقمي

يمتدّ انحياز غروكيبيديا السياسي إلى محتواها العلمي أيضاً. وبدل تبنّي "الإجماع العلمي" القائم على الأدلة، تروّج لآراء هامشية وتضعها على قدم المساواة مع النتائج المثبتة علمياً. فعلى سبيل المثال، تنفي ويكيبيديا بوضوح الادعاء المرفوض منذ زمن بأن اللقاحات تسبّب التوحّد، مؤكدة أنّ اللقاحات آمنة. أمّا غروكيبيديا فتعرض تلك المزاعم بوصفها "فرضية"، وتمنح مساحة لخطاب مناهضٍ للقاح. ورغم أنها تستشهد بمصادر مثل "CDC" و"WHO"، إلا أنّ إحالاتها تأتي بنبرة متحاملة، كأنّ القائمين على هذه المنظمات الصحية يفرضون سياساتهم "رغماً عن المعارضين"، في سعي واضح لافتعال جدل لا مسوغاً علمياً له.

 

كذلك في موضوع "العرق والذكاء"، تعيد غروكيبيديا تدوير علوم العِرق الزائفة. فهي تزعم أنّ "العلم" يثبت تفوّق بعض الأعراق ذكاءً بحكم الطبيعة، وتستشهد بجدول لمعدلات ذكاء مزعومة تدعمها مجلة "Mankind Quarterly" سيئة السمعة وذات الصلة باليمين المتطرف. أمّا ويكيبيديا فتوضّح أنّ الفروق في اختبارات الذكاء قابلة للتفسير بيئياً لا وراثياً. بهذه الطريقة تمنح غروكيبيديا بعض الأبحاث الزائفة غطاءً علمياً، من التشكيك في فعالية اللقاحات إلى الربط بين وباء الإيدز و"الإباحية المثلية" الذي أشرنا إليه في المقطع السابق.

 

المعرفة المسمومة ونتائجها الاجتماعية

الضحايا الحقيقيون لهذه الموسوعة التجريبية لن يكونوا من الباحثين والعلماء والأكاديميين، بل من المجتمعات المتأثرة بهالة "إيلون ماسك" وعبقريته المزعومة. فتزوير التاريخ أو التطبيع مع خطاب الكراهية داخل مصدر مرجعي واسع الانتشار يدّعي أنّه موسوعة، ينقل التحيّز إلى مستوى آخر.
 تخيّل طالباً يحب العلوم والفضاء و شركة "سبيس إكس"، فيثق بـ"غروكيبيديا" لصلتها الوثيقة بـ"سبيس إكس": قد يخرج مقتنعاً بأن العبودية كانت "نافعة"، أو بأن المتحوّلين "عدوى" نشرتها وسائل التواصل الاجتماعي، أو بأن المثليين "جلبوا الإيدز لأنفسهم". مثل هذه السرديات تعيد إنتاج الوصمات التي كافح الأكاديميون والعلماء والنشطاء عقوداً لمحوها.

 

تقديم العبودية كـ"حقبة حميدة" يعيد إنتاج العنصرية. واعتبار  المتحوّلين "عدوى اجتماعية" يكرّر نظريات المؤامرة التي تُستخدم لتبرير حرمانهم من الرعاية الصحية. أمّا ربط الثقافة المثلية بانتشار الأمراض فيرسّخ الصور النمطية المعادية للمثلية ويشوّش على جهود الوقاية الفعلية.

 

تحيّز صريح وآخر خفي

غروكيبيديا مثال جديد على أنّ الذكاء الاصطناعي متحيّز بطبيعته، لكن إيلون ماسك يقدّم هذا الانحياز بأسلوب فج. فمعظم شركات التكنولوجيا الكبرى تعتمد خوارزميات مبهمة للتأثير في ما يراه المستخدمون. وبدلاً من كتابة المحتوى، تضبط شركات مثل "فيسبوك" و"غوغل" خلاصات الأخبار ونتائج البحث لتعظيم التفاعل، ما يؤدّي في كثير من الأحيان، إلى تضخيم المحتوى المتطرف أو المضلل.

 

وقد حذّر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من أنّ مثل هذه الخوارزميات "تدفع الناس إلى فقاعات معلوماتية" وتُعزّز أشكالاً مختلفةً من التحيّز. كما يشير محللون إلى أنّ شركات التواصل الاجتماعي تستفيد مالياً من ذلك، إذ إن المحتوى المثير أو المضلل "يجذب التعليقات ويزيد التفاعل، وبالتالي يرفع من عائدات الإعلانات".

 

ولهذا السبب، تستهدف اللائحة الأوروبية للخدمات الرقمية (Digital Services Act) هذه المخاطر المنهجية صراحة، إذ تُلزم المنصّات بالحد من "التلاعب أو التضليل" الناتج عن خوارزمياتها ونماذج أعمالها. وباختصار، بينما يتّبع ماسك أسلوب إعادة كتابة صريحة للمحتوى، تعتمد منصّات أخرى تحيّزاً خفياً في الترتيب، وكلاهما يسهم في تشكيل "الحقيقة".


 

حين يحتكر ملياردير واحد "حزمة من الحقائق الجاهزة"، تكون النتيجة مزيداً من التجهيل. فالناس أصلاً يفسّرون الأخبار عبر أقنية أيديولوجية، فكيف إذا أصبحت محركات البحث والموسوعات نفسها تضاعف هذا الانحياز؟ ربما لن تجد على "غروكيبيديا" تأييداً لنظرية الأرض المسطّحة، لأن ماسك تأكد بنفسه من خلال صواريخه الفضائية أنّ الأرض كروية، لكن ما عدا ذلك، تعجّ المنصّة بكوارث معرفية تكاد تدور حول نفسها.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث