كاتبات عربيات تخرجْنَ من "سجن الاندماج" الهولندي

محمد أبي سمراالسبت 2025/11/01
 (محمد أبي سمرا) كاتبات عربيات تخرجْنَ من "سجن الاندماج" الهولندي
تحول إجراءات الاندماج المهاجرين إلى كائنات "بلا صفات"
حجم الخط
مشاركة عبر

في "توك توك" صغير الحجم، خفيف الوزن، ويشبه خنفساء صغيرة، ويستعمل غالبًا للتنقل الفردي، وصلنا شخصان اثنان إلى صالات مركز "بوديوم موزاييك" في أمستردام الغربية. هناك حضرنا أمسية أدبية - فنية ضمن برنامج أو مشروع عنوانه "عبور الآفاق" الذي نفذته طوال 5 أشهر كاتبات وفنانات عربيات مقيمات في هولندا، وعرضنه للجمهور طوال شهر في مراكز ثقافية وفنية عدة بأمستردام.

نساء في سجن هولندي

شاركت في إعداد المشروع الأدبي- الفني وفي تنفيذه مع عروضه كل من: الشاعرة والكاتبة والمترجمة الكردية العراقية فينوس فائق، الكاتبة القصصية والباحثة اليمنية هدى العطاس، الكاتبة والصحافية والمترجمة السورية سلوى زاهر، الكاتبة الروائية الفلسطينية مي جليلي، والكاتبة القصصية المغربية ليلى المرابط. وكانت قد وضعت فكرة المشروع الأختان اليمنيتان وفاء وهدى العطاس، وقامت وفاء العطاس بإنتاجه وإدارته فنيًا، وهي حائزة من جامعة أمستردام على ماجستير في إنتاج الأعمال الفنية والثقافية وتنشيطها، وتعمل في هذا المجال. أما إدارة إخراج نصوص الكاتبات وتجسيدها في مشاهد فنية بصرية فقامت به الفنانة اليمنية نسمة الشطفة.

 

غرفة الاندماج: 5 سنوات في 3 دقائق

تنطلق فكرة المشروع من التساؤل عن ماهية مفهوم الاندماج الذي تترجمه إدارة شؤون الهجرة والمهاجرين الحكومية في هولندا إلى إجراءات عملية تنفيذية، تطبقها على المهاجرين الذين عليهم الاستجابة لها كي يندمجوا في المجتمع الهولندي، ويصيروا أهلًا لحيازة الجنسية الهولندية. 

وترى المشاركات في المشروع (وهن جميعًا من النساء، ومنهن وفاء العطاس التي أعدت بحثها للماجستير عن مفهوم الاندماج في هولندا) أن إجراءات الاندماج التنفيذية تتعامل مع المهاجرين باعتبارهم موضوعات جاهزة، أو نسخًا متشابهة مكررة لا تمايزات بينها، وعليها الاستجابة لبرنامج نموذجي، نمطي وموحد، من التعليمات والإجراءات (تعلم اللغة الهولندية، معرفة بعض قوانين وأنظمة هولندا وتاريخها، وما شابه ذلك...). وهذا يؤهل المهاجرين فردًا فردًا وجميعًا للاندماج الاجتماعي والثقافي والاقتصادي. لكنه في المقابل لا يتعامل معهم ولا ينظر إلى كينوناتهم الإنسانية المتغايرة والمتمايزة (تحدرهم من بلدان وثقافات ومجتمعات متباينة، ولدى كل منهم شخصية الفردية، تكوينه الفردي، مزاجه، وتجربته الحياتية والمهنية، خبراته ومواهبه ومستواه التعليمي، وميوله... إلخ). أي إن برنامج دمج المهاجرين ينزع عنهم تواريخهم الاجتماعية والثقافية والمهنية، العامة والشخصية أو الذاتية. بل هو ينزع منهم ذواتهم أو يحملهم على كتمانها ومواراتها، فتتآكل وتصدأ وتتلاشى في نفوسهم، في الوقت الذي يحتضنونها ينكفئون على أنفسهم وذواتهم التي تصدعها الهجرة وإجراءات الاندماج. وبعبارة أخرى تحول إجراءات الاندماج المهاجرين إلى كائنات "بلا صفات"، وفق عنوان رواية النمساوي روبرت موزيل (1880- 1942) الشهيرة التي تعتبر إحدى أهم روايات القرن العشرين.

ووفق مشاركاتٍ في تنفيذ المشروع "تُسذِّج؛ بل تستغبي إجراءات الاندماج المهاجرين، وتدرجهم فردًا فردًا وجميعًا، كأسنان المشط، في عملية اختبارية بسيطة، ساذجة وغبية، عليهم الاستجابة الآلية والنمطية لها، بوصفهم صفحة بيضاء أو أطفالًا يتعلمون أو يتأتئون لغة بلد الهجرة وبعض المعلومات عن قوانينه وتاريخه، كي يصبحوا هولنديين أسوياء". 

وبما أن المشروع موجّه إلى الجمهور الهولندي العام، قامت وفاء العطاس باستعادة مشروع بحثها للماجستير، وقدمته بوصفه جزءاً من برنامج "عبور الآفاق" المتنوع: وضعت أمام صالة النشاطات الأدبية - الفنية التي أنجزتها الكاتبات المشاركات في المشروع، غرفة صغيرة (مستوعبًا) يدخل إليها جمهور الزائرين المشاهدين فردًا فردًا، كي يختبروا ويشاهدوا ويعيشوا في 3 دقائق ما تتطلبه من المهاجرين إجراءات الاندماج الذي يستغرق 5 سنوات من أعمارهم: تعليمات وإملاءات وأسئلة ومراقبة وملاحقة نمطية، لا تؤدي إلا إلى تسذيج شخص المهاجر وذاته وإفقاده كينونته، وتبخيس مخزونه الثقافي والفكري واللغوي والفني، خبراته الحياتية العملية. ثم إن من يدخل "غرفة الهروب من الاندماج" (سكيب روم) تلك يعيش حالة التوتر والضغط التي يعيشها المهاجر أثناء عملية الاندماج. 

وهذا على خلاف ما تحاول منظمات مجتمع مدني هولندية، قليلة وهامشية، أن تفعله: مساعدة المهاجرين على وضع برامج تتعامل معهم ككائنات إنسانية وفردية متمايزة، وتمكنهم من ابتكار نشاطات ثقافية وفنية واجتماعية، لإظهار مخزوناتهم اللغوية والثقافية والفكرية والفنية، وكذلك خبراتهم الحياتية والمهنية، وصولًا إلى الطبخ وتأثيث المنازل... بوصفها تراثًا إنسانيًا حيًا يمكن أن يضيف جديدًا لهولندا وثقافتها وفنونها، ويؤدي إلى أن يصير المهاجر شخصًا فاعلًا وحيويًا في المجتمع الهولندي.   

 

فنون بصرية وشوكة في الحلق

بعد غرفة- مستوعب (سجن الاندماج)، يدخل المشاهدون إلى قاعة عروض الأعمال الأدبية - الفنية التي أعدتها الكاتبات المشاركات في المشروع: نصوص نثرية وشعرية مكتوبة باللغات العربية والهولندية والإنكليزية معروضة على لوحات في صالة العرض. وقد حوّلتها الفنانة المشاركة في المشروع نسمة الشطفة إلى أعمال بصرية فنية، تستوحي من كل نص فكرة أو جملة أو عبارة أساسية، وتجسدها عملًا فنيًا بأشكال ومواد مختلفة.

كأن يؤخذ مما كتبته ليلى المرابط مثلًا، الجملة الآتية: "لغتي الحب وعيناي لمن رغب فهارس"، فيُنسج منها مشهد بصري تستعمل فيه مواد مختلفة، ويعرض في الصالة إلى جانب النص.

أو أن تتحول جملة "شيئًا واحدًا لم أستطع فعله: أن أنتمي لرائحة المكان".  التي كتبتها سلوى الزاهر، إلى مشهد بصري آخر. ومن الجمل أو العبارات التي تحولت مشهدًا بصريًا: "بعد أن جفّت يدها/ اكتشفت كيف يموت الماء" لهدى العطاس. 

وتخللت العروض قراءة الكاتبات مقتطفات من نصوصهن بالعربية، ووزعت على الحاضرين في الصالة مترجمة إلى الهولندية. والمشروع كله يريد أن يقول للهولنديين: انظروا ماذا نستطيع أن نفعل وماذا نمتلك من قدرات ومواهب وخبرات يهدرها برنامج الاندماج وإجراءاته النمطية. 

ونقتطف في هذا السياق بعضًا مما كتبه بعنوان "التأتأة" على صفحته الفيسبوكية الشاعر الكردي السوري دارا عبدالله المقيم في ألمانيا: "أتيتُ إلى ألمانيا (...) وأنهيت الألمانية في حوالى سنة وسبعة شهور، بهمة دراسية تكنوقراطية (مصدرها) خبرات البكالوريا السورية (...) وبقيت لغتي الألمانية المحكية صحيحة قواعديًا، لكنها مدرسية جافة، وتفتقر إلى روح العامية. (...) شوكة حارقة بقيت لسنوات في حلقي، (...) فأنت محدود في قولك بدرجة نضج اللغة عندك. أما هو (الألماني) فقادر أن يتجه بكلامه إلى التجريد، وأنت مسجون في ساحة الملموس. هو يحدد بدقة، وأنت تقارب بالوصف. (...) إن تعلم لغة جديدة بعد مرحلة معينة من النضج، يعني فعليًا طفولة جديدة، وبناءً تدريجيًا بطيئًا (...) حتى تكون قادرًا على تلبية نداء أي فكرة، من دون الوقوع في لحظة الصمت الكثيف، لحظة اصطدام اللسان بالشوكة في الحلق".

 

الموافي والبوديوم موزاييك

في الطريق إلى "بوديوم موزاييك"، كان الطقس باردًا وماطرًا طوال سير "التوك توك" بنا، على عجلاته الثلاث الصغيرة، في ممرات قليلة العرض، متعرجة ومخصّصة للدراجات الهوائية، على جنبات شوارع أمستردام. لكن هذه الممرات الطويلة، غالبًا ما تستقيم حين تدخل أجمات أشجار واسعة، شبه خالية، في جهات ونواحٍ كثيرة خارج وسط المدينة ومركزها. والأشجار في هذه الأجمات باسقة، سريعة النماء وتزداد طولًا في الليل، فتصير شبحية. حتى كأنما طول أجسام البشر في هولندا وفي ألمانيا أيضًا، يشبه الأشجار الفارعة في غاباتهم، أو مستمد منها. ويصعب أن يتسع "التوك توك" الصغير والضئيل الحجم لطول رجل هولندي. وقد استورد مهاجر من بلد عربي نحو عشر منه من الصين، فسماه "موافي"، لأنه يفي صاحبه ويكفيه مشقة وكلفة وسائل النقل.

وسوّق المستورد "توك توكاته" وباعها غالبًا من مهاجرين في أمستردام. وغالبًا ما يثير "التوك توك" دهشة مشاهديه المارين في الطرق، فيستوقفهم صغر حجمه وشكله، ثم يروحون يتفرجون عليه مستهجنين. وإذا تسنى لأحدهم مشاهدته متوقفًا استجابة لإشارة مرور، يبادر إلى سؤال سائقه عن مصدره وسرعته. وهي ما أن تتجاوز 30 كلم في الساعة حتى يروح الهواء العاصف في أمستردام يتلاعب به وبسائقه، وبالشخص الآخر المنحشر خلفه بصعوبة على مقعد غير مريح، توضع تحته بطاريتان تُشحنان بالطاقة الكهربائية كل يوم.

وطقس أمستردام الخريفي والشتوي والربيعي، هستيري في تقلبه، حتى بين دقائق وأخرى تليها. فمن مشمس صافي النور الزاهي، المبطن ببقايا رذاذ يتلامع في الضوء، ينقلب الطقس فجأة إلى ملبد بالغيوم السريعة في حركتها، والماطرة بشدة يضاعفها تلاعب العواصف بأمطارها. وهذا على خلاف مزاج وطبائع الهولنديين الهادئة الساكنة، كأنهم يعيشون في بلاد أخرى ثابتة الطقس. وهذه أيضًا حال الألمان وطقس بلادهم. لكن نمط عيش الألمان في مدينة كولن مثلًا -وهي غير بعيدة عن أمستردام بمعايير المسافات والوقت اللازم لاجتيازها في البلاد الأوروبية- يختلف اختلافًا بيِّنًا عن نمط عيش الهولنديين. فالأجيال غير الشابة في هولندا تفضل قضاء الأمسيات والسهرات في بيوتها، تاركة للأجيال الشابة الخروجَ والتنقل والسهر والترفيه في مطاعم ومقاهي وحانات وشوارع أمستردام، خصوصًا المهاجرين أو من أصول مهاجرة، وقد يغلب عليهم الطلبة الجامعيون. أما في مدينة كولن الألمانية فترى في أماكنها العامة أخلاطًا من الأجيال كلها، حتى في حانات السهر، لا سيما في ليالي عطلة نهاية الأسبوع.

وحين خرجنا من "توك توك" الصين المُتعِب، ودخلنا إلى مبنى "بودروم موزاييك" الأمستردامي، هبّت علينا فجأة موجة من الدفء والهدوء الفسيحين في صالات وقاعات منظمة تنظيمًا أنيقًا، وإضاءة أليفة مدروسة على نحو فني. هنا طاولة خشبية دهرية كبيرة في قاعة استقبال فسيحة، جلس حولها بعض المدعوين إلى عروض "عبور الآفاق"، وإلى جانبهم بعض الكاتبات المشاركات في برنامج العروض. وخلف صالة العروض وكراسيها يمتد بار خشبي طويل لمشرب تقدم نادلته البيرة والشاي والقهوة لطالبيها من الحضور. وخلف الصالة والمشرب ممرات تفضي إلى مكاتب إدارية وقاعات تمارين واجتماعات للنشاطات واللقاءات الفنية. وهناك قاعة أخرى فسيحة للقاءات وجلسات اجتماعية، جلس إلى طاولاتها مدعوون إلى لقاء آخر، لا صلة لهم ببرنامج "عبور الآفاق".

وقرأت الكاتبات العربيات نصوصًا من أعمالهن على حضور هولندي ومهاجر في هولندا. واستغرقت القراءات نحو ساعة، تلتها ساعة أخرى من غناء وعزف على عود المغني السوري عبدالقادر الملا. ثم شاركته في الغناء السورية شجى حايك التي بدت حيوية ومحترفة في أداء الأغاني، في حين أبدى الملا فيضًا من المشاعر والشجن الهادئ الحزين في غنائه لمحمد عبد الوهاب (يا وابور قلي رايح على فين) ولسيد مكاوي أيضًا. 

كانت الأمسية أليفةً، قراءاتٍ وأغانٍ رحب بها الحاضرون الهولنديون وسواهم من المهاجرين، واستجابوا لها بحماسة هادئة. وقال أحد الحاضرين العابرين في أمستردام: جميل أن تكون مجهولًا وبلا إسم. أن تبدأ من البداية، وبلا تعريف... مثل ذاك العود الذي كان متروكًا ومطمئنًا في سكون على الكنبة الجلدية الوثيرة الطويلة الخالية، قبالة المشاهدين في الصالة.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث