أحدثت الحلول القائمة على الذكاء الاصطناعي خلال السنوات الماضية نقلة نوعية في مجال الرعاية الصحية والتشخيص الطبي. ومع ظهور أدوات جديدة سهلة الاستخدام، مثل "تشات جي بي تي" و "ميد جورني" وغيرها، بدأ الحديث عن موجةٍ عارمة يشكلها الذكاء الاصطناعي في القطاع الطبي.
وخلال الشهور القليلة الماضية ظهرت تقنيات جديدة مدعومة بالذكاء الاصطناعي أقل ما يقال عنها إنها تجسد ثورة في التشخيص الطبي، لكن هل هذا يعني أن حاجتنا إلى الكوادر الطبية للتشخيص لم تعد قائمة؟
نظام "غوغل" الجديد للتشخيص الطبي
كان لافتاً حقاً ما نشرته شركة "غوغل" الأميركية قبل بضعة أشهر عن نظامها الجديد "مستكشف الذكاء الطبي المفصّل" الملقب بـ"إيمي"، المدرّب خصيصاً على البيانات السريرية بهدف المساعدة في التشخيص الطبي أو حتى العمل بشكلٍ مستقل تماماً، والقادر على توليد قائمة بالتشخيصات المحتملة لمئات الحالات الطبية المعقدة.
يعتمد "إيمي" في جوهره على التقنية الأساسية لنماذج اللغات الكبيرة، على غرار نماذج مثل "جي بي تي-4" أو نموذج "جيميني" من "غوغل". ومع ذلك، فإن هذا النظام ليس مجرد روبوت دردشة متعدد الأغراض مزود بالمعرفة الطبية، بل تم تحسينه خصيصاً للاستدلال التشخيصي السريري.
وبذلك فإن هذا النظام قادر على اتباع تعليمات محددة تتعلق بإنشاء تشخيصات دقيقة، وشرح استدلاله، والتفاعل بشكلٍ مفيد في السياق السريري. والأهم من ذلك، أن النظام مصمم لدعم الاستخدام التفاعلي، ويمكن للأطباء طرح أسئلة عليه لاستكشاف كيفية توصله إلى تشخيصٍ معين، وهذا ما يميزه عن أنظمة التشخيص المتوافرة حالياً.
ومثل غيره من أنظمة الذكاء الاصطناعي الطبية المتخصصة، تم تدريب "إيمي" على كمياتٍ هائلة من الأدبيات الطبية والدراسات والبيانات السريرية. وبالتالي تستطيع هذه الأنظمة معالجة المعلومات المعقدة، وتحديد الأنماط، وتذكر الحالات الغامضة بشكلٍ أسرع وأكثر شمولاً من الدماغ البشري الذي يدير مهامٍ أخرى لا تُحصى.
"مايكروسوفت" والذكاء الطبي الفائق
وفي شهر تموز المنصرم، أعلنت شركة "مايكروسوفت" الأميركية عن تطوير أداة ذكاء اصطناعي ثورية في مجال التشخيص الطبي، تُدعى MAI-DxO، قادرة على تشخيص الحالات المعقدة بدقة تفوق بأربع مرات الأطباء البشريين وبكلفة أقل بكثير.
حقق هذا النظام دقة بلغت 80 في المئة في تشخيص الحالات المعقدة مقارنةً بنسبة 20 في المئة للأطباء، كما خفّض الكلف بنسبة 20 في المئة من خلال اختيار اختبارات وإجراءات أقل تكلفة.
واستعانت الشركة الأميركية حينها بالعديد من باحثي الذكاء الاصطناعي في "غوغل" للمساعدة في هذا الجهد، ويُعدّ هذا المشروع أحدث حلقة في سلسلة بحوث متنامية تظهر كيف يمكن لنماذج الذكاء الاصطناعي تشخيص الأمراض. وفي السنوات القليلة الماضية، نشرت كل من "مايكروسوفت" و"غوغل" بحوثاً تظهر أن نماذج اللغات الكبيرة يمكنها تشخيص الأمراض بدقة عند منحها إمكانية الوصول إلى السجلات الطبية.
تنظير القولون وصور الثدي الشعاعية
ثمة عدد لا بأس به من مستشفيات العالم أدخل فعلياً الذكاء الاصطناعي في التشخيص الطبي. لنأخذ تنظير القولون كمثالٍ على ذلك، المستخدم لتشخيص سرطان القولون والمستقيم. أثناء الإجراء، يمرر الطبيب أنبوباً طويلاً عبر القولون، ويحدد يدوياً السلائل التي قد تكون سرطانية أو ما قبل سرطانية، ويزيلها.
بات يمكن اليوم تدريب الذكاء الاصطناعي على تحديد السلائل ثم تحديدها أثناء تنظير القولون، وقد أظهرت العديد من الدراسات العشوائية التي أُجريت في أنظمة الرعاية الصحية حول العالم أن استخدام الذكاء الاصطناعي لتعزيز تنظير القولون يقلل بشكلٍ كبير من معدل الخطأ في اكتشاف الآفات السرطانية المحتملة.
وبالمثل، يُستخدم الذكاء الاصطناعي للمساعدة في قراءة صور الثدي الشعاعية، وهي أداة فحص رئيسة للكشف عن سرطان الثدي. وقد وجدت الدراسات الطبية أن فحص الثدي الشعاعي المدعوم بالذكاء الاصطناعي دقيق على الأقل بقدر كفاءة أطباء الأشعة، وقد يحسّن من اكتشاف السرطان مع تقليل عبء العمل على الأطباء. ووافقت إدارة الغذاء والدواء الأميركية بالفعل على حوالي عشرين منتجاً للذكاء الاصطناعي للمساعدة في فحص سرطان الثدي الشعاعي، على الرغم من أن استخدامها لا يزال محدوداً نظراً إلى الكلفة الإضافية المحتملة المترتبة على استخدامها في الممارسة السريرية.
هل سيحل الذكاء الاصطناعي محل الأطباء؟
كل ما ذكرناه آنفاً يقودنا إلى طرح سؤالٍ جوهري، هل سيغنينا الذكاء الاصطناعي عن تشخيص الأطباء البشر؟ والجواب بالطبع هو لا، إذ يتضمن الطب الحقيقي التحدث إلى المرضى، وفهم تاريخهم المرضي، وإجراء الفحوصات الجسدية، وتفسير الإشارات غير اللفظية، وبناء الثقة، وإدارة الرعاية المستمرة، وهي أمور لا يستطيع الذكاء الاصطناعي القيام بها، على الأقل حتى الآن.
وحتى لو قدّمت مجموعة التقنيات الذكية حلولاً عبقرية، فسيكون من الصعب عليها محاكاة التعاطف، لأن جوهر التعاطف يكمن في عملية بناء الثقة والإنصات للآخر، والاهتمام باحتياجاته، والتعبير عن شعوره بالفهم، والاستجابة بطريقة تجعله يشعر بأنه قد فُهم.
في الوقت الحاضر، لا يمكن الوثوق بروبوت أو خوارزمية ذكية في اتخاذ قرار مصيري. ولا يثق معظم الناس راهناً بالآلات في المهام التي تتفوق فيها على البشر، لذا فهم يحتاجون إلى أطباء يمسكون بأيديهم بينما يخبرونهم بتشخيصٍ مصيري، وإرشادهم خلال العلاج.
وستتطلب حلول الصحة الرقمية المتطورة باستمرار كفاءة متخصصين طبيين مؤهلين، سواءً تعلق الأمر بالروبوتات أو الذكاء الاصطناعي. كما لا يمكن لأي روبوت أو خوارزمية تفسير التحديات المعقدة ومتعددة الطبقات التي تشمل النفس البشرية. فبينما ستوفر هذه التقنيات البيانات، سيبقى التفسير دائماً مجالاً بشرياً.
إلى جانب ذلك، لا يمكن الجزم البتة بأن الذكاء الاصطناعي مثالي في التشخيص الطبي، لا سيما مع وجود دراساتٍ تتحدث عن احتمال ارتكاب نماذج اللغات الكبيرة أخطاء أو "تهويلاً" في المعلومات، ما قد ينتج عنه مشاكل جسيمة. من هنا، يمكننا القول إنه حتى لو أدخلت الشركات العملاقة أنظمتها الذكية الجديدة إلى المستشفيات والعيادات، فستحتاج إلى إشرافٍ دقيق للغاية من جانب متخصصين مهرة.
