نفّذ عدد من الموظفين المدنيين في وزارة الدفاع السورية وقفة احتجاجية أمام مبنى محافظة دمشق، طالبوا خلالها بحقوقهم المعلّقة منذ أشهر بعد توقّف رواتبهم من دون صدور أي قرار رسمي بفصلهم أو إعادتهم إلى العمل. المحتجون أكدوا أنهم مدنيون خدموا في مؤسسات خدمية وإدارات إدارية لا علاقة لها بالعمل العسكري، لكنهم اليوم يجدون أنفسهم بلا مصدر دخل في ظل تدهور الأوضاع المعيشية.
المشاركون شددوا كذلك على أن قضيتهم ليست سياسية ولا أمنية؛ بل إدارية وإنسانية بحتة، مشيرين إلى أنهم طرقوا كل الأبواب الرسمية من دون أن يتلقوا أي رد حاسم، مطالبين بتسوية أوضاعهم إما بالتسريح الرسمي مع كامل الحقوق أو بإعادتهم إلى وظائفهم فوراً.
موظفون بلا رواتب منذ أشهر
باسل طلاس، أحد مؤسسي الوقفة الاحتجاجية، قال لـِ "المدن" إن الموظفين يعيشون منذ سقوط النظام البائد بلا رواتب ولا توجيه رسمي للعودة إلى العمل. وأكد أن مطالبهم واضحة: تصفية حقوقهم أو إعادتهم إلى وظائفهم أو نقلهم إلى وزارات أخرى، موضحاً أنهم لا يعارضون محاسبة أي شخص يثبت بحقه خلل أمني، لكن "السكوت عن وضعهم لم يعد مقبولاً بعد 11 شهراً بلا دخل".
سومر مارينا، موظف مدني في إدارة المركبات التابعة لوزارة الدفاع، أوضح أن رواتبهم متوقفة منذ عشرة أشهر، وأنهم لا يعلمون إن كانوا مفصولين أم على رأس عملهم؛ إذ لم يصدر أي قرار رسمي يحدد مصيرهم. يقول: "نحن مدنيون نعمل في أقسام خدمية لا علاقة لها بالعمليات العسكرية، ومع ذلك تُركنا من دون دخل أو تسوية لوضعنا".
أما محمد رائد حسون، الموظف في إدارة المركبات منذ عام 1999، فبيّن أنه وزملاءه راجعوا الجهات المعنية مراراً وطُلب منهم الانتظار في كل مرة.
كذلك أشار إلى أن وعود الحلّ بقيت حبراً على ورق، معبّراً عن أمله بأن تنظر الحكومة الجديدة بجدية في قضيتهم، فهم "موظفون مدنيون لم يحملوا السلاح يوماً"، كما قال.
من جهتها، تحدثت رابعة عبد الحميد المقداد، وهي موظفة في المؤسسة الاجتماعية العسكرية منذ العام 1995، عن معاناتها بعد توقّف راتبها ووقفها عن العمل من دون أي مبرر واضح. تقول: "لديّ ولدين في الجامعة، ولم أعد قادرة على تأمين مصاريفهما اليومية في ظل الارتفاع الحاد في الأسعار وتراجع القدرة المعيشية".
أما مادلين أحمد شعار، فتعمل إدارية في شركة الغزل والنسيج التابعة لوزارة الصناعة منذ العام 2019، وتشير إلى أن عقدها السنوي أُلغي على نحوٍ مفاجئ في منتصف تشرين الأول، بناءً على اقتراح من معمل النايلون الذي تعمل فيه. وتوضح أن شاغرها الإداري أُشغل بعاملة إنتاج من فئة أدنى، بالرغم من أن القانون يضمن لها أولوية الإشغال، معتبرةً أن ما جرى "إجراء غير منطقي وغير منصف".
نساء في وجه الأزمة ومعاناة أسرية متراكمة
عدد من الموظفات المشاركات في الوقفة الاحتجاجية تحدثن إلى "المدن" عن فصلهن من دون إعلام رسمي، وهذا ما تركهن في حالة من الغموض والإحباط. إحدى الموظفات التي تجاوزت خدمتها العشرين عاماً قالت إنها لا تعرف إذا كانت ما تزال موظفة أم لا، مطالبةً الدولة بالنظر إلى حالهن كأمهات مسؤولات عن أسر وطلاب جامعات لا يجدون حتى أجور المواصلات.
وأشارت موظفة أخرى، أمضت 33 عامًا في عملها الإداري والمحاسبي، إلى أنهن يعشن اليوم بلا أي مورد مالي، معتبرةً أن ما يتعرضن له من ظلم إداري يناقض وعود المرحلة الجديدة التي كان يُفترض أن تُنصف العاملين المدنيين.
قرارات غير منفذة ووضع معيشي يزداد قسوة
كانت "المدن" قد نشرت تحقيقاً استقصائياً بعنوان (موظفون حكوميون في إجازات قسرية: ما الذي يحدث في طرطوس؟) في ٢٢ ٱب الماضي، تناولت فيه ملف فصل الموظفين في عدد من المحافظات، خصوصاً في محافظة طرطوس؛ إذ صدر قرار بإعادة المفصولين إلى وظائفهم بعد ذلك. إلا أن القرار، وفق ما تبيّن، لم يُنفذ فعلياً؛ إذ بقي معظم الموظفين خارج عملهم بالرغم من مرور أشهر على صدوره.
ويأتي ذلك وسط تدهور غير مسبوق في مستوى المعيشة وارتفاع الأسعار وتراجع القدرة الشرائية، وهو ما يجعل آلاف الأسر المعلقة بين قرارات غير مطبقة وواقع اقتصادي خانق. وفي الوقت الذي يطالب فيه المحتجون بتسوية قانونية لوضعهم، لا يزال الصمت الرسمي سيد الموقف، في حين تزداد فيه التساؤلات حول مصيرهم ومستقبلهم المهني، وسط صمت رسمي يفاقم شعورهم بالظلم.
بيروقراطية متشابكة وأزمة ثقة متصاعدة
قضية الموظفين المدنيين في وزارة الدفاع تكشف عمق الخلل الإداري في مؤسسات الدولة، حيث تتداخل الصلاحيات وتتأخر القرارات، فيتحوّل الموظف إلى ضحية للروتين والضبابية القانونية. فبين القرارات التي لا تُنفّذ، والوعود التي تبقى من دون أثر، تتسع فجوة الثقة بين المواطنين والإدارة العامة، خصوصاً في ظل أزمة معيشية غير مسبوقة تدفع بالعائلات نحو حافة الفقر.
هذا المشهد لا يعبّر فقط عن معاناة عشرات الموظفين؛ بل يعكس أزمة إدارة وطنية أعمق، تحتاج إلى شفافية ومصارحة ومحاسبة حقيقية كي لا يبقى شعار "المرحلة الجديدة" مجرد عنوانٍ جميلٍ لواقعٍ مأزوم؛ بل بداية حقيقية لإصلاح إداري طال انتظاره.
