في بلدة الحويش الواقعة في جرد عكار، يصرّ صوت المطرقة على اختراق سكون الجبال، كأنه تحدٍّ للزمن الذي يمر ببطء في هذا الريف البعيد.
في دكانٍ صغير، يختلط فيه وهجُ النار برائحة الحديد والخشب المحترق، يجلس عمر سعيد عبدالقادر، آخر الحدادين الذين ما زالوا يحافظون على المهنة العربية التقليدية في المنطقة، وكأنه يحمل على كتفيه إرثًا ومهنة قيد الانقراض.
وصيٌ على الحرف الشعبية
مع مرور السنوات تفقد عكار الكثير من هويتها التراثية. عمر ليس مجرد حدّاد؛ إنه يرى نفسه كوصيّ على تاريخ متجسد في كل أداة يصنعها. منذ سنوات طوال، يمارس الحدادة العربية التي تتطلب الصبر والدقة والمهارة، ويصنع الفؤوس والمعاول والمناجل التي كانت أساس حياة الفلاحين في الجرد العكاري، إلى جانب حواليش الحشيش، والسكاكين، ناهيك بالأجران الحجرية بجميع أشكالها وأحجامها، إلى جانب العِصي، متجاوزًا بذلك حدود الحرفية، لتصبح أعماله أيقونات حيّة للتراث الشعبي.
ورث عمر المهنة أبًا عن جد، ويؤكد أنه لا يجد نفسه قادرًا على العمل في أي مجال آخر. يقول لـ"المدن": "ورثت المهنة عن أبي وجدي، ولا أظن أنني أستطيع مزاولة أي عمل آخر. الحدادة العربية باتت جزءًا من كياني، ولا أعرف غير هذا الفن إذا كان بالإمكان تسميتي بفنان".
يعترف عمر عبد القادر بأن الطلب على هذه المصنوعات أصبح قليلًا، وأن غالبية من يشتريها الآن يريدها للزينة المنزلية كقطع تراثية، أو لأغراض تصويرية فقط، فيما قلّت الحاجة العملية لها.. ويقول: "أصبح الطلب قليلًا، لأن التطور غزا الأدوات ووصل إلى أيدي الفلاحين والحطّابين الذين باتوا يستخدمون اليوم مناشير الكهرباء والآلات الحديثة. ومع ذلك، فهو لا يستطيع مزاولة أي عمل آخر، فالحدادة العربية باتت شيئًا من روح، وهي التي تحدد مسار حياته".
يد تعمل بحرارة القلب
على الطريق العام لقرية الحويش، وعلى جدران محله المتواضع، يعلّق عمر مصنوعاته من الأدوات الخشبية، بانتظار أن يأتي من يشتريها، كأن كل فأس أو منجل يروي قصة من تاريخ القرية والقرى المجاورة، وتفاصيل الحياة الريفية التي باتت تندثر شيئًا فشيئًا. البعض من أهالي القرية والقرى المجاورة ولدى مرورهم على الطريق تستوقفهم هذه المصنوعات وبالأخص لالتقاط الصور والفيديو، لاسيما وهم يضربون بجرن الكبّة، وقد أصبحت هذه الأدوات تراثية، وهناك من جيل الشباب من لا يعرف عنها وعن استخدامها شيئاً.
ورغم كل ذلك، يصرّ عمر عبد القادر على الحفاظ على الطرق التقليدية في العمل: الفحم بدل الكهرباء، والمطرقة بدل الماكينة، مؤمنًا بأن اليد التي تعمل بحرارة القلب تُطيع الحديد وتصنع منه أدوات تحمل روح الإنسان. ويلفت عمر إلى أن "لكلّ مكون من هذه المصنوعات سعره ووقته في الإنجاز. فالجرن على سبيل المثال يحتاج إلى 3 أيام للإنجاز، وسعره 150 دولاراً.. لكن قيمته الفعلية لا تُقاس بسعره، بقدر ما تُقاس برمزيته، كونه يعبّر عن ماضٍ وتراث سيأتي يوماً بلا شك ونبحث عنه بكل جوارحنا".
ولا يكتفي عمر بالحفاظ على أدواته فحسب، بل يسعى أيضًا إلى تعليم المهنة لأبنائه وأحفاده، كي لا تندثر هذه الحرفة العريقة. يقول: "أسعى لتعليم أبنائي كل خطوة في العمل، من اختيار الحديد إلى طرقه على السندان، لأن التراث يحتاج من يحميه، وإذا ضاع هذا العمل، ضاع جزء من هويتنا".
ويضيف عن المستقبل: "قد يقل الطلب أكثر بكثير، لكن الأهم أن تبقى المهنة حيّة. يجب أن يوجد دائمًا من يحرس النار، وأنا لها".
مهارة وصبر نادران
يُظهر عمر تميزًا فريدًا في تنوع إتقانه لكل ما يخص الحدادة العربية. من أدوات الزراعة التقليدية إلى السكاكين وصولًا إلى صناعة الأجران الحجرية بالكامل. كل عمل يُظهر مهارة نادرة وصبرًا استثنائيًا، وكأن كل قطعة هي حكاية قائمة بذاتها.
بين المطرقة والنار والحديد، يستمر عمر عبد القادر في حراسة شرارة مهنة عمرها قرون، محافظةً على تراثٍ لن تسمح له الأيام بالاندثار. وفي النهاية، يختتم حديثه بابتسامة تعبق بالفخر: "لن أتوقف عن العمل ما دامت هناك نار وسندان... الحرفة تحتاج إلى من يحرسها، وأنا آخر الحُرّاس".
هذا الدكان الصغير في الحويش، إذا مرّرت يدك على الحديد والخشب، تشعر بأنك تمس تاريخًا حيًا، وأنك تقف أمام شخص اختار أن يكون حافظًا للتراث قبل أن يكون حدّادًا، شخص يرفض أن يسمح للزمن بأن يمحو مهنة عكارية عمرها مئات السنين. في عمر عبد القادر، تلتقي الحرفة بالفخر، والتراث بالإصرار، والصبر بالمهارة، لتظل الحدادة العربية حيّة على وجه الأرض، ولو في دكان واحد فقط.
رئيس بلدية الحويش عبد الكريم الأكومي، من جهته، وفي حديثٍ خاص بـ"المدن"، يبدي الفخر بعمر ومصنوعاته ويقول: "البلدية ستقيم معرضاً في الفترة المقبلة، يعرض فيه عمر هذه الادوات التي تمثّل عراقة وتراثاً كبيرين. في السابق كان كثر بين الحويش ورحبة يصنعون منها، لكن عمر الآن هو الوحيد الذي ينفرد بها ويحافظ على تراثٍ قديم هجره كثيرون مضطرين أو غير مضطرين".
