داخل مبنى متهالك في حي الشعار بمدينة حلب شمال سوريا، يمضي المسن السبعيني محمد محي الدين أنيس أيامه متمسكاً بهواية منقطعة النظير في البلاد التي أنهكتها الحرب عبر اقتناء السيارات الكلاسيكية.
المسن أنيس أو أبو عمر كما يناديه الأهالي، ليس موظفاً متقاعداً ولا تاجراً، بل حارس لأسطول من السيارات القديمة التي قاومت الزمن والحرب، تماماً كما قاوم هو فكرة الرحيل من سوريا.
في كل صباح، يخرج أبو عمر من منزله المتصدع الذي بناه والده في أربعينيات القرن الماضي، ويتفقد سياراته المركونة أمام الباب، واحدة تلو الأخرى. يربت على سقف سيارة "البويك" التي يعود تاريخ صنعها إلى عام 1955، ويزيل الغبار عن “الكاديلاك” الحمراء المكشوفة.
يقول أبو عمر لـ"المدن": "كانت هذه السيارات ذات يوم تُزيّن شوارع حلب ودمشق وبيروت، لكنها اليوم تصطف صامتة كالشواهد، تحمل على أجسادها آثار القصف وذكريات المدن التي لم تعد كما كانت".
ذاكرة تسير على أربع عجلات
قصة أبو عمر بدأت منذ عقود، حين كان طالباً يدرس الطب في إسبانيا، قبل أن يعمل مترجماً لشركة "فيات" الإيطالية. عاد إلى حلب في الثمانينيات ليؤسس مصنعاً لمستحضرات التجميل أطلق عليه اسم "ميلا روبنسون"، لكن القلب ظلّ معلقاً بالمحركات الكلاسيكية.
ورث أبو عمر شغفه من والده الذي كان يملك سيارة "بونتياك" عام 1950، وما لبث أن جمع أكثر من ثلاثين سيارة نادرة من طرازات أميركية وفرنسية وألمانية، بينها كاديلاك قادها الرئيسان شكري القوتلي وجمال عبد الناصر في احتفالات الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958.
مع اندلاع الحرب السورية، خسر أبو عمر عشر سيارات دفعة واحدة، بعضها نُهب، وبعضها احترق تحت القصف، أما البقية، فقد تحوّلت إلى هياكل بلا حياة. ومع كل خسارة، كان يشعر أن جزءًا من روحه يُسلب منه.
ورغم كل ذلك، لم يغادر المسن الحلبي مدينته، بل ظلّ يرمم، ويلحم، ويعيد طلاء القطع المسروقة من السيارات بيديه، مستخدماً أدوات قديمة احتفظ بها منذ شبابه.
بعد أن غادرت زوجته وابنته إلى حماة خوفاً من القصف، بقي أبو عمر وحيداً مع سياراته. في المساء، يجلس في غرفة نومه التي تهدمت جدرانها جزئياً، يشعل غليونه ويدير الفونوغراف ليستمع إلى أغنية "حكاية حبنا" لمحمد ضياء الدين، كأنها تحكي حكايته.
يقول أبو عمر وهو يغالب البكاء: "كان ماضيَّ سعيداً جداً، لكن الحاضر قاسٍ ومع ذلك لا أسمح لليأس أن يقودني، بل استمر في حياتي وشغفي ما دمت قادراً على ذلك ولدي الطاقة والجهد".
ولقدم أسطول السيارات التي يملكها أبو عمر جعلها محط أنظار منتجي ومخرجي المسلسلات التاريخية السورية، إذ يشير المسن السوري إلى أن عدداً من سياراته شارك ضمن دراما تاريخية من أبرزها مسلسل "كوم الحجر" ومسلسل "التغريبة الفلسطينية" وغيرها من الأعمال الفنية.
واليوم أقصى ما يتمناه أبو عمر أنيس أن يقام معرض لأسطول سياراته الكلاسيكية القديمة، ويحلم أن يرى الناس سياراته مصطفّة كما في خمسينيات القرن الماضي، وأن يسمع دهشة الزوار وهم يلمسون ذاكرة مدينتهم المنسية.
