إحياء الأنواع المنقرضة: تحدّيات علمية ومخاوف أخلاقية

نافع سعدالأحد 2025/10/26
استنساخ هرة وكلب (غيتي)
تبرز مخاوف عملية تتعلق برفاه الكائنات المعدلة وبسلامة النظم البيئية التي قد تطلق فيها (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

في مطلع هذا العام، استقبل العالم بحماسة إعلان عودة الذئب الرهيب (Aenocyon dirus) إلى الحياة بعد أكثر من عشرة آلاف عام على انقراضه. فقد كشفت شركة "كولوسال بيوساينسز" (Colossal Biosciences) للتقنيات الحيوية عن ثلاثة جراء بيضاء تحمل أسماء "رومولوس" و"ريموس" و"كاليسي"، وزعمت أنها أول عملية إحياء ناجحة لنوع منقرض.


تصدرت العناوين الحدث بوصفه انتصاراً علمياً كبيراً وبداية "عصر جديد للإحياء". غير أن تقارير لاحقة أوضحت أن هذه الجراء ليست ذئاباً رهيبة حقيقية، بل هي ذئاب رمادية عدلت جينياً لتشبه "الذئب الرهيب" شكلاً فقط. وأظهر الجدل أن تعديلات محدودة على الجينوم لا تكفي لتماثل تام مع السلف المنقرض. والأهم أنها كشفت منذ اللحظة الأولى توتراً في صميم مشاريع إعادة إحياء الأنواع: بين ضجيج الترويج وتوقعات الجمهور من جهة، والحقائق العلمية الصارمة والتحفظات المهنية من جهة أخرى.

 

وعد إعادة الإحياء: ثلاث طرق رئيسية

تمثل فكرة إعادة إحياء الأنواع المنقرضة مزيجاً فريداً من التقدم العلمي والخيال الشعبي. لكن، بعيداً من الفولكلور، يتطلب إرجاع كائنات انقرضت إلى الوجود استخدام أدوات البيولوجيا الحديثة. وقد تطورت خلال السنوات الأخيرة عدة تقنيات لتحقيق هذا الهدف الطموح، وعلى رأسها "التحرير الجيني"، و"الاستنساخ"، و"التكاثر الانتقائي الموجه".


لكلٍ من هذه الطرق دور محدد: فمثلاً، يركز الاستنساخ على نقل نواة خلية من كائن منقرض إلى بويضة منزوعة النواة من نوع قريب، وهي الطريقة التي استخدمت عام 2003 لإنتاج جنين مستنسخ من الماعز الجبلي الإسباني (البوكاردو) المنقرض، وإن لم يعش المولود أكثر من دقائق معدودة. غير أن الاستنساخ يتطلب خلايا حية محفوظة من النوع المنقرض، لذلك فهو أنسب لإعادة حيوانات انقرضت منذ عشرات السنين وحفظت خلاياها، لا لحيوانات اختفت قبل آلاف السنين.


أما منهجية الانتقاء الاصطناعي العكسي، أو ما يعرف بـ"الإحياء الانتقائي" (Selective Breeding)، فتعتمد على تهجين السلالات القريبة من النوع المنقرض عبر أجيال متعددة لاسترجاع صفاته المميزة. وقد طبقت هذه المنهجية فعلاً في مشاريع طموحة مثل محاولة استرجاع الشكل الخارجي لحمار كواجا الوحشي المنقرض، وأيضاً ثور الأوروخ البري القديم.


وأكثر الأساليب حداثة هو التحرير الجيني باستخدام أدوات مثل تقنية كريسبر (CRISPR) الشهيرة، حيث يعاد تركيب الشيفرة الوراثية للكائنات الحية الحالية لتضم جينات من الأنواع المنقرضة. ففي حالة الذئب الرهيب مثلاً، استعان العلماء بجينوم الذئب الرمادي (Canis lupus)، وقاموا بتعديل نحو 20 مورثة فيه استناداً إلى الحمض النووي المستخرج من حفريات الذئب الرهيب، في محاولة لإحياء السمات الظاهرية لذلك المفترس ما قبل التاريخي.


حدود الضجة والمخاوف العلمية

رغم الإنجازات التقنية الكبيرة، ما تزال تحديات علمية حاسمة ومخاوف أخلاقية عميقة تكتنف مشاريع إعادة الإحياء. يتمثل أحد أبرز هذه التحديات في الفجوة بين الصورة الإعلامية والحقيقة العلمية، إذ تصور الحملات الدعائية هذه الكائنات المستحدثة كما لو أنها نسخ طبق الأصل من أسلافها المنقرضة، بينما يشير العلماء إلى أنها في أحسن الأحوال كيانات هجينة تحمل بعض جينات السلف، لا السلف نفسه.


يوضح مشروع إحياء الماموث الصوفي (Woolly Mammoth) هذه الفجوة بوضوح: تسمي شركة "كولوسال بيوساينز" ذلك "إحياءً وظيفياً" للماموث، أي استعادة الصفات والشكل العام من دون استرجاع الإرث الجيني كاملاً. غير أن منتقدين يجادلون بأن بضع تعديلات جينية (60 مورثة فقط في هذه الحالة)، لا يمكنها أن تعوض ملايين السنين من التطور التي صنعت الماموث الحقيقي؛ فالنتيجة كائن "فيل-ماموث" وظيفي يعيش في البيئات الباردة. وغالباً ما تتوارى هذه الدقائق العلمية بالغة الأهمية وسط ضجيج العناوين المثيرة.


إلى جانب ذلك، تبرز مخاوف عملية تتعلق برفاه الكائنات المعدلة وبسلامة النظم البيئية التي قد تطلق فيها. ففي تجربة الذئب الرهيب مثلاً، استخدمت إناث من الذئاب العادية كأمهات بديلة لحمل الأجنة المستنسخة والمعدلة. وتثير هذه الإجراءات تساؤلات حول حقوق الحيوان ورفاهيته: ما مدى المعاناة أو المخاطر الصحية التي قد تتعرض لها الأمهات البديلات أو الجراء المستحدثة؟ وهل ستحظى هذه الحيوانات المعدلة بصحة جيدة وسلوك طبيعي على المدى الطويل، أم أنها ستواجه مشكلات غير متوقعة؟


يشير بعض الباحثين إلى احتمال ظهور اختلالات سلوكية أو فيزيولوجية لدى هذه الكائنات، نظراً إلى أنها تحمل مزيجاً غير مألوف من الجينات القديمة والجديدة، وقد لا يكون جسدها مهيأ تماماً للتعامل معه. بالفعل، عانت محاولات مبكرة في استنساخ الأنواع المنقرضة من مشكلات واضحة، إذ توفي المولود المستنسخ لحيوان الماعز الجبلي الإسباني (البوكاردو) المنقرض سريعاً بسبب عيوب في الرئتين، وهو ما يذكر بأن التحديات البيولوجية حقيقية وعميقة، وليست مجرد تفاصيل ثانوية يمكن تجاوزها بسهولة.

 

بين القانون والأخلاق

الجوانب القانونية والتنظيمية تمثل بُعداً آخر من أبعاد المخاطر. فحتى الآن، لا توجد أطر قانونية واضحة للتعامل مع كائنات "عادت من الانقراض". هل تصنف هذه المخلوقات قانونياً على أنها الأنواع المنقرضة ذاتها أم تعامل كنسخ جديدة تماماً؟ وكيف سينظم وضعها من حيث الحماية أو السيطرة؟


على سبيل المثال، إذا أطلق قطيع من الماموث المستنسخ في منطقة ما، فهل تنطبق عليه قوانين حماية الحياة البرية المعمول بها حالياً، أم سيستلزم الأمر تشريعات خاصة؟ إن هذا الفراغ القانوني قد يفتح الباب أمام إساءة الاستخدام أو يعرض هذه الحيوانات المستحدثة ومحيطها البيئي لمخاطر غير مضبوطة.


وبالمثل، فإن الاعتبارات الأخلاقية حاضرة بقوة. فهناك من يجادل بأن إحياء نوع انقرض قبل آلاف السنين من دون تدخل بشري مباشر يفتقر إلى مبرر أخلاقي واضح. فإذا كان انقراض نوع ما نتيجة طبيعية لتغيرات مناخية أو جيولوجية، فهل يحق لنا إعادته بدافع الفضول العلمي أو الترفيه البشري؟ يشير باحثون إلى أن الحجة الأخلاقية القائلة بتصحيح "ظلم تاريخي" تنطبق أكثر على الأنواع التي انقرضت بفعل الإنسان، كضحايا الصيد المفرط أو فقدان المواطن الطبيعية. أما في حالات الانقراضات الطبيعية القديمة، فقد يكون الدافع الأخلاقي لإحيائها أضعف بكثير.

 

 لا يمكن تجاهل أن مشاريع "إعادة الإحياء" الحديثة تحركها أيضاً رغبة في إصلاح الخطايا البيئية. فقد انقرضت أنواع كثيرة، مثل النمر التسماني وطائر الحمام الزاجل الأمريكي، بأيدينا عبر الصيد الجائر أو تدمير الموائل الطبيعية. وبالنسبة لبعض العلماء والمدافعين، يمنحنا إرجاع هذه الأنواع فرصة لتصحيح أخطاء الماضي، إذ ينظر إليه بوصفه واجباً أخلاقياً ورداً لاعتبار لكائنات تسبب النشاط البشري في زوالها. وإلى جانب ذلك، ثمة حجة بيئية تدعم هذه الجهود، مفادها أن إعادة بعض الأنواع قد تسهم في استعادة وظائف بيئية مفقودة في النظم الحالية.

 إلا أن بعض العلماء يرون أن توجيه هذه الجهود والإمكانات نحو حماية الأنواع المهددة بالانقراض اليوم أجدى من محاولة إعادة الحياة لما انتهى فعلاً.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث