تعيينات على المقاس تربك هيبة الرقابة: كيف مرت صفقة المفتشين؟

بتول يزبكالسبت 2025/10/25
9 (2).jpg
"التوازن الطائفي" ذريعة سياسية لإجهاض قرارٍ حكومي نافذ (مصطفى جمال الدين)
حجم الخط
مشاركة عبر

في جلسةٍ عابرة لمجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهوريّة، اندفعت ماكينة التّعيينات على نحوٍ خاطف لتمرير قرارٍ يفيد رئيس التّفتيش المركزي، جورج عطية، عبر تعيين عشرين مفتّشًا معاونًا دفعةً واحدة، في خطوةٍ تظهر، بحسب توصيف متابعين، "توقيعًا سياسيًّا" فاقعًا يفتح الباب أمام أسئلةٍ موجعة حول شلّل الأجهزة الرّقابيّة، وتحويلها منصّةً لتبادل المنافع، لا رافعةً لصون المال العام وحسن الأداء الإداريّ. ما جرى لم يمرّ عبر مباراةٍ علنيّة تضمن التنافس الشّفّاف، بل جرى، كما تؤكّد مصادر مطّلعة، بمقابلاتٍ شخصيّة أجراها عطية نفسه، وبموافقاتٍ من إداراتٍ يعمل فيها الموظّفون المنقولون، في ممارساتٍ تحيل القانون إلى رأيٍ يستشار عند الضّرورة، لا إلى ميزانٍ يحتكم إليه.

 

مظلّة سياسية وحسابات نفوذ

تقول المصادر "للمدن" إنّ القرار جاء بإصرارٍ مباشر من الرّئيس جوزاف عون، وإنّ مظلّةً سياسيّةً وفّرت لعطية غطاءً مستدامًا لتقاعسٍ متناسل عن أداء الواجب الرّقابي. فالرّجل الذي كان قد تذرّع في عهد الرّئيس ميشال عون "بنقص العنصر البشري" لتبرير شلل التّفتيش، عاد اليوم إلى الذّريعة ذاتها، لكن عبر طريقٍ أقصر وأوعر، إذ لا مجلس خدمةٍ مدنيّة، ولا مباراة، ولا لوائح مراتب، بل مقابلاتٌ "على المقاس" تقصي من تقصي، وتدخل من تدخل، وتطيح بما تبقّى من أعرافٍ إداريّة راسخة.

"ما الذي حدث تحديدًا؟" سؤالٌ تجيب عنه معطياتٌ حصلت عليها جهاتٌ متابعة للملفّ، تفيد بأنّ بندًا قدّم إلى مجلس الوزراء قبل نحو ثلاثة أسابيع لنقل موظّفين إداريّين إلى التّفتيش المركزي بحجّة وجود شواغر في الملاك. صحيحٌ أنّ الشّواغر قائمة، غير أنّ المجموعة المعيّنة، كما تقول المصادر نفسها، "من أصدقاء أصحاب النّفوذ"، وأنّ أقصى ما يمكن أن تبلغه في مواقعها الحاليّة هو الدّرجة الثّالثة، بينما يفتح لها النّقل إلى التّفتيش باب إدراجها لاحقًا في فئةٍ أعلى، ثمّ ترقيتها إلى الفئة الأولى "حسب الطّلب"، فتستكمل حلقة المحاصصة، ويظهر الفساد في ملفّاتٍ تدار خلف أبوابٍ مغلقة داخل جهازٍ يفترض فيه أن يكون رأس الحربة في مكافحة الفساد.

وتضيف المصادر أنّ الوزراء كانوا قد رفضوا البند في المرّة الأولى، ولا سيّما وزراء الطّائفة الشّيعيّة، وبينهم تمّارا الزين وغيرها، لكنّه أقرّ أمس، بطلبٍ خاص من رئيس الجمهوريّة "لتمرير الملفّ"، من دون اعتراضاتٍ تذكر، في ما يشبه صفقةً مقابلة. "ما هي الصّفقة؟" تسأل المصادر وتجيب: "لا نعرف بعد، نحاول التحقّق". 

 

الجرح القديم: 21 مفتشاً ناجحاً مجمّدون منذ 2017

على خطٍّ موازٍ، يعيد الغبار المثار حول التّعيينات الجديدة فتح جرحٍ قديم لم يلتئم: ملفّ المفتّشين التّربويّين الذين نجحوا في امتحان مجلس الخدمة المدنيّة العام 2017. فبحسب أصحاب الشّأن، يمتنع التّفتيش التّربوي عن إدخال واحدٍ وعشرين منهم إلى ملاكه، على الرّغم من نجاحهم في مباراةٍ رسميّة، وعلى الرّغم من أنّ "لا كلفة ماليّة إضافيّة" ترتّبها عمليّة النّقل، لكونهم موظّفين أصلًا في وزارة التّربية. لماذا تحجز إذن ملفاتهم في أدراج مجلس الوزراء؟ الجواب، وفق روايتهم، في كلمةٍ واحدة، "التّوازن الطّائفي".

في الوقائع، طلب التّفتيش التّربوي عام 2017 إجراء مباراةٍ عبر مجلس الخدمة المدنيّة لتعيين 52 مفتّشًا، فنجح العدد كلّه. لاحقًا، في عام 2020 صدر القرار رقم 5 بتعيين 29 موظّفًا منهم مع حفظ حقّ المتبقّين، ثم القرار رقم 22 لتعيين الواحد والعشرين الباقين، بعد خروج حالةٍ إلى التّقاعد ووفاةٍ أخرى. هنا تدخّل رئيس التّفتيش المركزي وأصدر "إنهاءً" يمنع إدخالهم إلى الملاك بحجّة "فائض الاختصاص"، وأنّ التّفتيش ليس في حاجةٍ إلى تخصّصاتهم. يؤكّد الموظّفون أنّ "الإنهاء" صدر خارج مهلة الخمسة عشر يومًا المحدّدة قانونًا من تاريخ صدور القرار الحكومي، وأنّ صلاحيّة رئيس التّفتيش "تحوّلت واقعًا إلى سلطةٍ تتجاوز مجلس الوزراء"، مع أنّ التّعيين من صلاحيّات الحكومة وحدها. (راجع "المدن")

 

التوازن الطائفيّ كأداة لتعطيل القانون

بالنّسبة إلى أصحاب الملفّ، "الحجّة لا تصمد". يستندون إلى معطيين اثنين، أوّلهما أنّ المفتّشيّة العامّة التّربويّة، بحسب ما نقل عن المفتّشة العامّة فاتن جمعة، تعاني شغورًا كبيرًا يحول دون أداء مهامّها على النّحو المطلوب، وثانيهما أنّ عدد موظّفي التّفتيش اليوم لا يتجاوز "نحو ثلاثين"، بينما كانت دراسةٌ عائدةٌ إلى العام 2011 قد حدّدت الحاجة إلى 52 مفتّشًا كحدٍّ أدنى لتغطية الأعمال. فكيف يكون ثمّة "فائض اختصاص" والعدد نفسه لا يكتمل، والمهامّ تتضاعف بفعل الأزمات المتلاحقة التي عصفت بالمدرسة الرّسميّة، من انهيار البنى التّحتيّة إلى تعطّل الامتحانات الرّسميّة، مرورًا بملفّات شراء القرطاسيّة والمستلزمات التّربويّة، ووصولًا إلى التّعاقدات والمنح والهبات؟

في العمق ما هو أخطر، إذ يستخدم "التّوازن الطّائفي" ذريعةً سياسيّةً لإجهاض قرارٍ حكوميّ نافذ. يشير الموظّفون إلى أنّ غالبيّة النّاجحين في مباراة 2017 هم من المسلمين، وأنّ قوى سياسيّةً مسيحيّة، ولا سيّما "التيّار الوطني الحر"، رفضت استكمال التّعيينات "لعدم تأمين التّوازن". ويستعيدون مثالًا قريبًا، ففي العام 2018 جرت تعييناتٌ في السّلك الخارجي شملت 23 موظّفًا، بينهم 20 مسيحيًّا، وكان يفترض أن تستكمل التّعيينات في التّفتيش التّربوي كمعادلٍ موضوعي، لكنّ الملفّ تعطّل بعد استقالة حكومة الرّئيس سعد الحريري، ثم عاد في حكومة حسّان دياب بصيغة دفعةٍ أولى من 29 موظّفًا فقط.

أحد أوجه الفضيحة، كما يراها أصحاب الشّكوى، أنّ الطّرق الإداريّة القانونيّة تسدّ متى خالفت "الرّغبة السّياسيّة". يروون أنّهم حاولوا الوصول إلى القصر الجمهوري، فاعتذر رئيس الجمهوريّة عن "الإحراج"، وأحالهم إلى مستشاره أنطوان شقير، قال إنّ "الملفّ طائفيٌّ بامتياز"، وحاول الاتّصال بجورج عطية الذي رفض "بالمطلق"، بل رفض كذلك إحالة الملفّ إلى هيئة القضايا والاستشارات "لأنّه يعلم أنّه سليمٌ قانونًا، والعائق الوحيد هو التّوازن الطّائفي". وعلى خطٍّ آخر، يقولون إنّهم سعوا للقاء رئيس الحكومة نواف سلام منذ تسلّمه، لكنّ الأبواب "موصدة"، وإنّ عطية "عرض الموضوع على طريقته". الخلاصة، كما يختصر أحدهم، "نحن محاصرون، وملفّنا طائفيٌّ بامتياز، ولو كنّا مفيدين في المحاصصة لسارت أمورنا". 

من زاوية الإدارة العامّة، لا يبدو ثمّة ما يبرّر الإحجام عن إدخال ناجحين في مباراةٍ رسميّة إلى ملاك التّفتيش التّربوي، لاسيّما أنّ العمليّة لا تحمّل الخزينة أعباءً إضافيّة. فالانتقال من وزارة التّربية إلى التّفتيش هو نقل ملاكٍ فحسب، لا توظيفٌ جديد، كما أنّ طبيعة عمل المفتّش التّربوي لا تتوقّف على تخصّصٍ أكاديميٍّ بعينه، إذ تتوزّع مهامّه على التّفتيش الإداري والفنّي والمالي والقانوني في المدارس الرّسميّة، وفي الإدارات التّابعة لوزارة التّربية، وفي المركز التّربوي للبحوث والإنماء، وفي الامتحانات الرّسميّة. نعم، ثمّة قيمةٌ مضافة للمفتّش المتخصّص، غير أنّ الحاجة الضّاغطة اليوم هي إلى "عددٍ" من المفتّشين قبل أيّ شيء، لتعويض النّقص الفادح وإعادة انتظام الرّقابة.

في المقابل، تظهر طريقة تمرير تعيين عشرين مفتّشًا معاونًا عبر مقابلاتٍ شخصيّة وموافقاتٍ إداريّة، وفق أصحاب الحقّ، أنّ باب التّوظيف في الأجهزة الرّقابيّة يفتح ويغلق بحسب "المصلحة"، لا بمقتضى القانون. فلو كان المعيار هو "الحاجة والاختصاص"، لكان الأولى تصفير ملفّ النّاجحين المجمّد منذ 2017، ثمّ إجراء مباراةٍ جديدة تحدّد شروطها علنًا وتراقب بشفافيّة. أمّا أن يهمل القرار الحكومي الرقم 22، ويستعاض عنه بمقابلاتٍ مغلقة، فذلك قرينةٌ قويّة على وجود إرادةٍ سياسيّةٍ بإعادة تشكيل الجسم الرّقابي على نحوٍ يلاقي شبكات النّفوذ.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث