في مشهد يوحي بأن سقوط نظامٍ لا يعني بالضرورة انهيار شبكاته الاقتصادية غير المشروعة، تحوّلت سوريا بعد سقوط بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024 إلى بؤرة أكثر رسوخًا لصناعة وتهريب حبوب "الكبتاغون"، بدلاً من أن تنحسر هذه الآفة مع تغيّر السلطة.
وحسب موقع the cradle الإنكليزي، فإن ما كان يُنظر إليه يومًا كـ"اقتصاد الظل" التابع للنظام السابق، بات اليوم نسيجًا إقليميًا معقّدًا، لا يخضع لسلطة واحدة، بل يُدار عبر شبكات لامركزية، تربط بين مصانع صغيرة متناثرة، وخلايا تهريب ذكية، وتحالفات ملتبسة تمتد من الساحل السوري إلى الصحراء الشرقية، ومن بيروت إلى عمان.
الكبتاغون يغمر الأسواق
تشير أحدث البيانات الصادرة عن الحكومة السورية إلى أن الكميات المضبوطة من الكبتاغون خلال الأشهر العشرة الأولى من عام 2025 (من يناير إلى أغسطس) بلغت أكثر من 200 مليون حبة، أي ما يعادل نحو 13,763 كيلوغرامًا من المادة الفعّالة.
هذا الرقم يفوق بأكثر من ثمانية أضعاف الكمية التي سجّلها مكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة لعام 2023 بالكامل، والتي لم تتجاوز 1674 كيلوغرامًا.
وإذا كانت هذه الأرقام المعلَنة مذهلة، فإن الخبراء يؤكدون أنّها لا تمثل سوى "رأس جبل الجليد". فالكميات التي تُضبط غالبًا ما تكون جزءًا ضئيلاً من حجم التهريب الفعلي، خاصة مع تنامي أساليب الإخفاء والتهريب التي تفوق أحيانًا قدرة الأجهزة الأمنية على الملاحقة.
خريطة انتشار تجارة الموت
التوزّع الجغرافي للمضبوطات يرسم صورة مقلقة عن انتشار الإنتاج والتهريب في عمق الأراضي السورية. ففي اللاذقية وحدها، صودر نحو 64 مليون حبة، ما يشير إلى أن الساحل لم يعد معقلًا سياسيًا سابقًا فحسب، بل أصبح مركزًا لوجستيًا رئيسيًا لصناعة المخدرات. وفي ريف دمشق ودرعا، سُجّلت مضبوطات بلغت كلٌّ منها نحو 3 ملايين حبة، بينما توزعت بقية الكميات بين حلب وحمص ودير الزور.
ولم يقتصر الأمر على الكبتاغون. فقد ضبطت السلطات خلال الفترة نفسها أكثر من 700 كيلوغرام من الحشيش، و2 كيلوغرام من الكوكايين، و725 غرامًا من الهيروين، ما يدل إلى أن سوريا باتت محطة عبور وتصنيع لأنواع متعددة من المخدرات، لا للكبتاغون وحده.
تعاون إقليمي وطائرات مسيّرة
لم تقف الدول المجاورة مكتوفة الأيدي، ففي الأردن، أعلن الجيش مصادرة 14 مليون حبة كبتاغون و603 صفائح حشيش خلال الأشهر الماضية، في إطار تعاون أمني غير مسبوق مع السلطات السورية. وقد أحبط الجانبان معًا سبع محاولات تهريب، وصادرا نحو مليون حبة في عمليات مشتركة على طول الحدود.
الأكثر إثارة للقلق هو تطوّر وسائل التهريب، فبعد أن كان المهربون يعتمدون على الشاحنات والأنفاق، باتوا اليوم يستخدمون طائرات مسيرة، بل وحتى مناطيد حرارية وأنابيب مدفونة تحت الأرض.
وحسب ما أعلنه الجيش الأردني، فقد تم إسقاط أكثر من 300 طائرة مسيرة محملة بالمخدرات منذ مطلع 2025، أي بمعدل 43 طائرة شهريًا، ما يعكس ذكاءً تكتيكيًا متزايدًا لدى الشبكات الإجرامية.
إنتاج وتوزيع وشبكات تصنيع
وقال فضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان لـ "المدن": بالنسبة إلى موضوع الكبتاغون في سوريا، فإنه لا يزال هناك حتى الآن نوعٌ من الإنتاج والتوزيع والتصنيع والشبكات، والسبب في ذلك، في الحقيقة، يعود إلى عدة عوامل: أولها أن الدولة أعلنت حربًا على تجارة الكبتاغون، لكنها في الوقت نفسه تحولت إلى الجهة الأساسية التي تدير هذه التجارة. وبحسب تحقيقاتنا في الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد تأكد لنا أن الكبتاغون بات صناعةً مركزيةً تديرها الدولة نفسها، أي أن الدولة هي تاجر الكبتاغون الأول في سوريا. وهذا يختلف تمامًا عن واقع كثير من الدول، حتى تلك المعروفة بتجارة المخدرات مثل دول أمريكا الجنوبية أو فنزويلا، حيث يكون هناك، على سبيل المثال، بعض المسؤولين الحكوميين المتواطئين، أو فساد هنا وهناك، أو وزير أو مسؤول متورط. لكن في سوريا، كان الوضع مختلفًا جذريًّا، ويبدو أن هذا التصور لم يكن واضحًا لدى كثير من الصحفيين وصناع القرار والمسؤولين: الدولة بكل أجهزتها هي تاجر الكبتاغون الأول، فالأمر لم يكن مجرد فساد من وزير أو معاون رئيس أو الرئيس نفسه أو محيطه، بل كان نظامًا متكاملًا".
وأضاف: "في دول أخرى، قد تجد جزءًا من أجهزة الأمن أو الجيش يحارب هذه التجارة، وجزءًا آخر متورطًا، لكن هنا في سوريا، كان الكل متورطًا. وهذا أمر نادر حتى في الدول المشهورة بتجارة المخدرات، حيث لا يكون كل جهاز الدولة طرفًا في هذه التجارة. وقد أدّى نظام الأسد إلى انتشار تجارة الكبتاغون بشكل كبير جدًّا، حتى أصبحت تجارةً مركزيةً، بل وصارت مصدر رزقٍ ومصدرًا اقتصاديًّا أساسيًّا للنظام، وهي في الوقت نفسه مصدرٌ تدميريٌّ للمجتمع".
وتابع: "لكن هناك من يقول، وهذا ما ننقله، إن انتشار الكبتاغون أصبح هائلًا جدًّا في المجتمع: في محلات صغيرة، وصيدليات، وورش تصنيع محلية، وأقبية، وغيرها. والقضاء على هذه الظاهرة يتطلب وقتًا وجهدًا كبيرين جدًّا. إضافةً إلى دعم دولي واسع، يشمل أجهزةً ومعداتٍ متخصصة. أما ما فعلته السلطة الجديدة، فهو أنها قضت على الجذور المركزية للتجارة: فقد لاحقت المصانع الكبيرة وشبكات التهريب الرئيسية وما إلى ذلك. وبالتالي، انخفضت تجارة الكبتاغون في سوريا بنسبة كبيرة جدًّا، تصل إلى 70–80%، لكن ما زال هناك 20–25% من هذه التجارة نشطة. وهؤلاء العاملون في النسبة المتبقية لا يسهل القضاء عليهم، لأنهم محليون، ويعملون سرًّا، ولديهم شبكات توريد وتوزيع خاصة وضيقة، وهم منتشرون في مختلف المحافظات، بل إن جزءًا منهم موجود في مناطق خارج سيطرة الدولة، مثل السويداء على سبيل المثال، حيث لا تزال تجارة الكبتاغون رائجة جدًّا".
ولفت إلى أن بعض العشائر والبدو في مناطق بعيدة عن سيطرة الدولة يشاركون أيضًا في هذه التجارة، لأنهم، مثل غيرهم، بحاجة إلى موارد وإمكانيات اقتصادية. وبالتالي، فإن معالجة هذه الظاهرة – التي تضم مئات النقاط الصغيرة المنتشرة – أمرٌ صعبٌ للغاية، ويتطلب وقتًا وجهدًا مستمرين، لكنني أعود لأكرر: الأهم أننا تخلّصنا من الجذر المركزي، أي من رعاية السلطة الرسمية لهذه التجارة".
أمراء المخدرات ومنافسات دموية
التحقيقات الأخيرة كشفت عن وجود "أمراء" حقيقيين يسيطرون على هذه الإمبراطورية. ففي 3 أغسطس 2025، ألقت السلطات القبض على المطلوب الإقليمي عامر جديع الشيخ، في عملية كشفت عن صراعات داخلية بين عصابات متنافسة. وعُثر في مخبأ بمنطقة لبنانية على 50 مليون حبة كبتاغون وكميات كبيرة من الحشيش كانت متجهة إلى دول الخليج. ما يشير إلى أن هذه الشبكات لا تزال قادرة على التخطيط لعمليات ضخمة عبر الحدود.
والأكثر خطورة هو ما تشير إليه تقارير استخباراتية عن تحالفات جديدة بين تجار المخدرات وخلايا نائمة تابعة لتنظيم "داعش" في مناطق شرقية وجنوبية، حيث يُقدّم التنظيم "حماية" مقابل حصة من الأرباح، وهذه العلاقة المصلحية المريضة حوّلت تجارة المخدرات من نشاط إجرامي إلى اقتصاد بقاء في ظل غياب الدولة، وانهيار البنية الأمنية، واستمرار العقوبات الدولية.
جهود محلية ونجاحات متتالية
ورغم تعقيد المشهد، تواصل الأجهزة الأمنية السورية جهودها لمكافحة هذه الآفة.
ففي 18 أكتوبر الجاري، أحبطت الجمارك في معبر جديدة يابوس الحدودي محاولة تهريب 200 ألف حبة كبتاغون مخبأة داخل مركبة آتية من لبنان.
وفي 22 سبتمبر، تمكنت إدارة مكافحة المخدرات في معبر نصيب من ضبط شحنة مخبأة داخل عبوات مشروبات غازية، وقادت التحريات إلى اعتقال مرسلها في منزله، حيث عُثر على 54 كيلوغرامًا من الكريستال، و17.5 كيلوغرامًا من الحشيش، و43 ألف حبة كبتاغون.
وفي دمشق، ألقي القبض على شبكة كانت تعدّ 185,882 حبة للترويج، بينما نفّذ فرع مكافحة المخدرات في حلب سلسلة عمليات نوعية أسفرت عن ضبط 267 ألف حبة و20 كيلوغرامًا من الحشيش، بالإضافة إلى 158 ألف حبة أخرى وكيلوغرام من "إتش بوز" في عملية منفصلة، وفي اللاذقية، تم ضبط 150 ألف حبة كانت معدة للترويج.
كل هذه العمليات، رغم نجاحها، لا تُخفي الحقيقة المؤلمة: أن الكبتاغون لم يمت مع النظام، بل وُلد من جديد، بوجوه مختلفة، وشبكات أكثر ذكاءً، واقتصاد أكثر تجذرًا في جسد الدولة الممزّق.
بنية تحتية من أيام الأسد
وفي هذا الصدد، قال الخبير في القانون الدولي، المعتصم الكيلاني لـ "المدن": "هناك عدة عوامل موجبة تشرح استمرار هذه الشبكات، منها: وجود بنية تحتية حُدِّدت مسبقاً في زمن بشار الأسد ونظامه المخلوع، أصبحت صناعة الكبتاغون بُعداً "استراتيجياً" للاقتصاد السوري. وقد تشكّلت شبكات إنتاج وتصدير متكاملة داخل البلاد وخارجها وتم خلق تقنيات وأساليب متطوّرة للتهريب والإنتاج: رغم ما قيل عن ضبط مئات الملايين من الحبوب، إلّا أن التحقيقات أظهرت أن المنتِجين والمهربين يتكيفون بتقنيات أكثر تقدّماً، وتوجيهات أعمق نحو التغطية والتنقّل. مثلاً، مراسلون يشيرون إلى أن "شبكات الكبتاغون تتكيّف وتنجو" بعد سقوط أجزاء من النظام".
وتابع: "خروج بعض المناطق عن السيطرة والفوضى الأمنية، رغم سقوط الأسد ونظامه فإن بعض المناطق "الفوضوية" أو التي تشهد ضعفاً في الرقابة تتيح استمرار النشاط، أو حتى تحوّله إلى مرافق جديدة. ما يجعل استمراره لدى المهربين هو الربحية العالية وفرص التسهيل: سوق الكبتاغون يُقدّر بمليارات الدولارات، ما يجعله محفّزاً كبيراً لاستمرار الاستثمارات فيه من قِبَل الفاعلين، وأيضا البيئة السورية بعد سنوات الحرب تسمح بأنشطة غير مشروعة تزدهر في ظل ضعف مؤسسات الدولة والرقابة، ما يساعد الشبكات، وبالتالي، استمرار شبكات الكبتاغون ليس مجرد بقايا، وإنما نتيجة تراكم بنى تحتية وقدرات مُهيّأة، إلى جانب ظروف سياسية وأمنية ملائمة".
وفي رد على سؤال: من يقف وراء تمويل هذه الشبكات اليوم؟ أجاب: "تمويل شبكات الكبتاغون في سوريا يحمل أبعاداً معقّدة، وقد تغيّرت أدواته وملحقاته بعد تغيّر مراكز السلطة. ففي عهد نظام الأسد المخلوع، توجد ادلة قوية بأن وحدات عسكرية داخل النظام، بما في ذلك الفرقة الرابعة، كانت تشرف على مصانع وتصدير الكبتاغون، وتمثّل جزءاً من تمويل النظام عبر العملة الصعبة. كذلك، تقارير تشير إلى أن شبكات محلية وإقليمية من مهربين وعصابات استخدمت بنية النظام أو ما بعده للتهريب، بعد تغيّر مراكز السلطة وإسقاط الاسد ، يبدو أن بعض "العناصر القديمة" أو "العابرة" ما زالت تملك الموارد أو العلاقات التي تسمح لها بالاستمرار، رغم تغيّر الحماية السياسية أو الأمنية. وهنالك، تقرير بريطاني-أميركي يقول إن الصناعة تعرضت لتجزئة لكنها لم تُنهَ، بل تمّ "تحويلها" أو إعادة هيكليتها، إذ إن الأمر يتوزّع بين مهربين محليين، وكلّ ما تبقّى من بنى تحتية للدولة السابقة، وربما أطراف إقليمية أو وسيطة تستفيد من التهريب. وفي المجمل، تمويل هذه الشبكات يُعدّ خليطاً بين إرث النظام السابق يضاف إليها وسائل تهريب وتحويل أموال وتغيّرات ما بعد الحرب".
وفي رد على سؤال: كيف تتمكّن من الاستمرار والازدهار في ظل تحوّلٍ جذريّ في مراكز السلطة؟ أوضح أن "التحوّل إلى مناطق ضعف/ فراغ أمني: حين تتراجع الدولة أو تتغيّر السيطرة الأمنية، تجد شبكات التهريب فرصاً في مناطق الحدود والمناطق الريفية أو تلك التي تمرّ عبرها الحبوب".
ولفت إلى أنه في زمن الحرب، يجد الاقتصاد غير الرسمي فضاءً كبيراً، مما يسمح بأنشطة كانت في الظلّ أن تصبح أكثر وضوحًا أو منشّطة، واستمرارية التصدير خاصة إلى الخليج: سوق الطلب في دول الخليج والدول المجاورة لا يزال قائماً، مما يعطي حوافز لشبكات الإنتاج والتصدير لاحقاً.
الكبتاغون عملة البقاء في زمن الفوضى
التحوّل الجذري في السلطة لم يُنهِ الشبكات تلقائياً. أضعفها نعم لكن أجبرها على التكيّف، ما مكّنها من الانتقال إلى "مرحلة ما بعد الدولة القديمة" مع استمرار الطلب والربحية.
لم يعد الكبتاغون مجرد مخدر يُروّج في الأسواق، بل أصبح عملة نفوذ، ووسيلة بقاء، ومحرك اقتصادي عابر للحدود، وهو ينمو في الفراغ الذي خلّفه انهيار الدولة، ويستثمر في الصراعات الإقليمية، ويستفيد من ضعف الحوكمة. ومع كل عملية ضبط، تظهر شحنة جديدة، ومع كل شبكة تُفكك، تولد أخرى أكثر تطورًا.
