لا تزال الكثير من الأسر النازحة في الشمال السوري تعيش في خيام قماشية تفتقر إلى أبسط أساسيات الحياة. وتواجه النساء الحوامل في تلك المخيمات معاناة شديدة نتيجة سوء التغذية، ونقص الرعاية الصحية، وانعدام مقومات النظافة العامة، ما يزيد من مخاطر الإجهاض والولادة المبكرة والتشوهات الخلقية.
بعد المراكز الصحية وغياب الرعاية
"قلبي يشتعل قلقاً على مصير جنيني الذي لم يكتمل بعد" تقول النازحة عتاب المحمود (26 عاماً) ويلازمها قلق مستمر أن تفقد جنينها للمرة الثانية، بعدما فقدت الأول قبل عام أثناء سكنها في مخيم باريشا شمالي إدلب.
وتضيف: "التأخر في الوصول إلى أقرب نقطة طبية أثناء الولادة، كان السبب في فقدان طفلي الأول. وأثناء الولادة داخل المخيم، استعنت بقابلة قانونية تسكن في القرية نفسها، فأكدت خطورة حالتي وحاجتي إلى عناية مركزة، وضرورة الاستعانة بأقرب مستشفى، علماً أنه يبعد حوالي 25 كم عن مكان سكني، كما عانيت من التأخر في العثور على وسيلة نقل، فوصلت إلى المشفى في حال حرجة، وبعدها فارق طفلي الحياة فور ولادته".
نزحت المحمود من بلدة دير الغربي بريف إدلب الشمالي، لكن العودة إلى قريتها رغم تحريرها من نظام الأسد، ليست متاحة حالياً. فالخدمات الأساسية غير متوافرة، والمدارس والمستوصف الوحيد فيها مدمرة بالكامل، فضلاً عن انتشار الألغام والذخائر غير المنفجرة.
وأوضحت أن الوضع في المخيمات لا يقل سوءاً أو قسوة، حيث تفتقر الأسر إلى المياه النظيفة، فيما باتت أسعار الأدوية مرتفعة تفوق قدرة السكان. وأشارت إلى أن الشتاء الذي بات على الأبواب يشكل تهديداً إضافياً، وأن الإرهاق النفسي بلغ ذروته، ما جعل النازحين يشعرون بأنهم مهمشون ومنسيون تماماً.
أزمة اقتصادية خانقة
تعاني الكثير من النساء النازحات من تدهور حاد في حالاتهن الصحية بسبب محدودية توفر الغذاء الكافي والمغذي، ما ينعكس سلباً على نمو الأجنة، ويزيد مخاطر الولادات المبكرة والتشوهات الخلقية، والإجهاضات المتكررة.
وبحسب تقرير لمنظمة الصحة العالمية "يونيسيف" عام 2024 يعاني أكثر من 650 ألف طفل دون سن الخامسة من سوء التغذية المزمن - بزيادة قدرها حوالي 150 ألف طفل في السنوات الأربع منذ عام 2019. ويتسبب سوء التغذية المزمن اضرار في النمو البدني والمعرفي للأطفال ويؤثر على قدرتهم على التعلم، وإنتاجيتهم ودخلهم لاحقًا في سن الرشد.
وتقول حليمة لطوف (29 عاماً) تعيش في مخيم على أطراف مدينة إدلب: "أبلغتني الطبيبة أن حياتي وحياة الجنين مهددة، جراء الجوع". وتشرح أنها تشعر بوهن وخمول دائمين بسبب نقص الغذاء، وخوفها متزايد من احتمال تعرّض الجنين لتشوهات خلقية ناتجة عن قلة الغذاء، كما أن انعدام أبسط مقوّمات النظافة، تجعلها متخوفة من أن تحمل عدوى أو مرضاً يسرق منها حلم الأمومة قبل أن يبدأ.
وتضيف: "زوجي مصاب في الحرب، وأضطر للعمل في الورش الزراعية لمساعدته. لقد أتعبني الحمل كثيراً ولم أجد أي مساعدة، ولم يدخل جسمي ما يكفي من الغذاء منذ بداية الحمل. حتى المكملات الغذائية التي وصفتها الطبيبة لي عجزت عن شرائها".
انعدام مقومات الحياة
ولا تقتصر مخاوف الأمهات على الحمل والولادة فحسب، بل تتعداهما إلى تحديات عدة مثل إبقاء الأطفال على قيد الحياة في ظل البرد وغياب المواد الأساسية كالماء والدواء.
هناء عيدة (35 عاماً) من مدينة سراقب جنوبي إدلب، أم لخمسة أطفال، أصغرهم بعمر 6 أشهر، تقطن في مخيم كفرلوسين، وتعاني من قلة المياه النظيفة اللازمة للحفاظ على نظافة أطفالها، ونظافة الخيمة. وتقول: "أشعر بالتوتر والقلق، وأشعر بالعجز التام تجاه أطفالي، ورغم ذلك أحاول قدر استطاعتي الاهتمام بنظافة أبنائي وتوفير احتياجاتهم واحتياجاتي."
وتشير إلى أن منزلها في مدينة سراقب مدمر بشكل كامل، وأنها لا تملك المال لإعادة بنائه من جديد، لذا عليها أن تنتظر إعادة الإعمار، أو جهود المنظمات الدولية لتنتهي رحلة نزوحها القاسية المستمرة منذ أكثر من 5 سنوات حتى اليوم".
وتعجز عيدة عن شراء الحليب لطفلتها البالغة من العمر ستة أشهر، بسبب فقر حالها وغلاء أسعاره، وعن ذلك تضيف: " غلاء المعيشة يفوق طاقتنا، نجت طفلتي من الإجهاض لكني لا أعرف الآن كيف سأحافظ على حياتها بدون غذاء ولا دواء، لذا اضطر لإطعامها الشاي والخبز أو مسحوق الأرز المطبوخ مع القليل من السكر".
أمراض شائعة بين الحوامل
ووفق الطبيبة حسناء عثمان المتخصصة بأمراض النساء والتوليد "عدم الاهتمام بالتغذية الجيدة للأم أثناء الحمل ينعكس سلباً على صحة الأم والجنين. تصاب الأم بعدّة أمراض أهمها فقر الدم الحاد، النزيف، الوفيات، نقض الوزن عند الولادة، الهزال، تأخر نمو الطفل، موت الجنين داخل رحم الأم".
وأكدت عثمان أنّ المعاناة تتفاقم في مخيمات النزوح بسبب انهيار البنية التحتية، وشح الموارد الأساسية مثل المياه النظيفة، وعدم توفر الأدوية والمستلزمات الطبية الضرورية، إضافة إلى الأثر النفسي للنزوح التي تجعل منهن عرضة للخطر المستمر.
وتوضح أن معدل الإجهاض بين النساء الحوامل في مخيمات النزوح ارتفع خلال فترة الحرب، مع عدم توفر المياه وعدم الحصول على التغذية الكافية.
وتشير إلى أن النساء الحوامل يبقين عرضة في الظروف الحالية لخطر الإصابة بالتهابات خطيرة، حيث لا خيار لديهن سوى البقاء في خيام، دون وجود رعاية بعد الولادة أو إمدادات طبية أو مقدمي رعاية صحية لمتابعة حالاتهن. كما أن الظروف البيئية غير الصحية التي يعاني منها معظم السكان، تؤدي لانتشار الأمراض والعدوى بشكل واسع.
وتوضح الطبيبة أن غلاء الطعام لا يسمح للأمهات بإنتاج الحليب، وحرم نسبة كثيرة منهن من إرضاع أطفالهن طبيعياً، في وقت يعجزن عن تأمين الحليب الصناعي البديل بسبب الظروف المادية الصعبة وسعره المرتفع، وسط تفشي الفقر والغلاء وشح فرص العمل للرجال والنساء تحديداً، حتى إن الحصول على ملابسٍ وحفاظات لأطفالهن بات أمراً بغاية الصعوبة، ومع قدوم الشتاء تكون الظروف أكثر قسوة لضمان بقاء أطفالهن الرضع بصحة جيدة.
وتؤكّد عثمان، أن الأثر النفسي للنزوح على النساء الحوامل كبير ومدمر، توضح قائلة: "النساء اللواتي يعشن تجربة النزوح يعانين من مجموعة متنوّعة من الأعراض النفسيّة، بما في ذلك الصدمة والخوف والقلق والاكتئاب.
وتلفت الطبيبة إلى أن 50 بالمئة من النساء الحوامل القاطنات في مخيمات النزوح اللواتي يزرن عيادتها يعانين من مشاكل الحمل والولادة، مؤكدة أن الحل الأمثل هو تسيير عيادات متنقلة، تزور المخيمات لمتابعة النازحات الحوامل، وتخضع فيها المرأة للفحوصات الأساسية (فحص حجم الرحم ونبض الجنين)، وتقدّم لهنّ العناية اللازمة.
وتضيف: "الحاجة ملحة لاستجابة دولية فاعلة ومستدامة، تنقذ الأرواح وتعيد الحد الأدنى من الخدمات الصحية لمجتمعات تعاني من الحرب والنزوح والإهمال."
تواجه النساء الحوامل المخاطر في مخيمات النزوح، ويعشن أوضاعاً إنسانية مأساوية، في ظل تدهور متصاعد في القطاع الصحي وتراجع في دعم المراكز الطبية، ما بات يشكل تهديداً مباشراً وخطراً كبيراً على حياة الأمهات والمواليد.
