سبق وتلقّيت رسالة من صديقي علي، لبناني شيعي مقيم في فرنسا، يقترح فيها أنّ علاقة الإيمان بالذكاء الاصطناعي لم تناقش بعد بالجدية الكافية، وأنّه من المفيد فتح هذا الملف بحثاً وتحليلاً. كان علي يحتاج إلى توضيح مسألة فقهية. لم يتواصل مع مرجع ديني. وتعذّر عليه لقاء أحد رجال الدين. ففتح "ChatGPT" وطرح سؤاله. في دقائق حصل على عرض مقارن لآراء مراجع عدّة داخل المدرسة الشيعية.
هذه التجربة الصغيرة تثير سؤالاً كبيراً: ماذا يطرأ على الديانات الكتابية حين تصبح المعرفة الدينية متاحة فوراً، مجمّعة، ومتعدّدة الرؤى عبر أدوات ذكية لا تنتمي إلى مرجعية بعينها؟ أين يتموضع الوسيط الديني التقليدي في منظومة معرفية تعيد توزيع السلطة التأويلية، وتقدّم للمؤمن "خريطة اجتهادات" فقهية متوازية بدل جواب واحد نهائي؟
إذا صحّ هذا التحوّل، فالعلاقة بين المتديّن و"عالِم الدين" قد تتبدّل جذرياً: من وسيط واحد إلى منصّات تجيب وتحاضر، ومن فتوى تنطلق من مرجعية محدّدة إلى "مكتبة رأي" فورية تعكس أطياف التفسير داخل الدين نفسه. ومع التسارع الذي يحكم كل ما يعتمد على البيانات، قد نرى خلال عقد واحد تيارات جديدة تنشأ داخل المذاهب: تيارات تتبنّى الذكاء الاصطناعي وأخرى تقاومه، كما شهدت حوزة النجف تاريخياً جدالات بين مشايخ "مع" التكنولوجيا و"ضدّها". هل يقود هذا إلى تقارب بين الأديان عبر معرفة مشتركة، أم إلى "غرف صدى" مذهبية أكثر انغلاقاً؟ ومن يحرس ميزان التمثيل والحياد كي لا تطغى قراءات "الأكثر حضوراً" على حساب الأقليات؟
هل يجسر الهوّة بين المؤمنين أم يعمّق الانقسام؟
نظرياً، يستطيع نظام واحد عرض خرائط متوازية للمذاهب والفرق، فيعرّف الكاثوليكي على الأرثوذكسي، والسنّي على الشيعي، ويضعها في صفحة واحدة بلغة محايدة. هذا يبدّد الجهل بالآخر ويخفض حماوة الأحكام المسبقة. لكن خوارزميات التخصيص تعمل بما نطعمها: إن كرّر المستخدم تفضيلاته، تعلّمت المنصّة تعزيزها. هكذا تنشأ "غرف الصدى"، عقائدية متماسكة من الداخل، هشّة أمام المختلف.
ومع ظهور أدوات "مذهبية" متخصّصة، مثل روبوتات مفصّلة لطائفة بعينها، قد يزداد التشرذم بدل الحوار.
الأخطر أنّ الانحياز البنيوي لبيانات الإنترنت، أي غلبة لغات وثقافات بعينها، قد يميل بالعرض إلى الرأي السائد ويغيّب هامشيّات أو قراءات محلية أقل حضوراً رقمياً. النتيجة الممكنة مزدوجة: مشروعات تضيّق الفجوات عبر عرض مقارن منصف، وبالمقابل جزر منعزلة من يقين معاد التدوير. كبح المسار الثاني يتطلّب تصميماً للذكاء الاصطناعي يشجّع التعدّد: إبراز خلافات المدرسة نفسها، مع فتح الباب أمام منظور مختلف، وتوضيح حدود هذه المعرفة الآلية ومصادرها.
الذكاء الاصطناعي والسلطة الدينية
لطالما اضطلع القادة الروحيون بدور حراس المعرفة الروحية والسلطة الأخلاقية. اليوم يواجه هذا الترتيب اختباراً جديداً مع الذكاء الاصطناعي، إذ يستطيع أي شخص أن يسأل روبوتاً مدرّباً عن آية أو حكم أو سيرة، فيحصل على إجابة فورية.
هذا يشي بـ"ديمقراطية المعرفة الدينية"، لكنه يطرح سؤالاً جوهرياً: هل يمكن لروبوت الوصول إلى "الحكمة الإلهية"؟ يشير الفيلسوف نيل ماك آرثر (Neil McArthur) في حديثه عن "أديان الذكاء الاصطناعي" إلى أنه حين يتواصل الناس مباشرة مع "ذكاء أسمى" (كما يتصورونه)، تغدو الأديان أقل هرمية لأنه "لا أحد يمكنه ادعاء الوصول الخاص إلى الحكمة الإلهية".
عملياً، بات بعض المؤمنين يلجؤون إلى الذكاء الاصطناعي طلباً لـ"رأي ثانٍ" بعد خطبة، أو لنصيحة أخلاقية شخصية، فيقارنون ما تقدّمه الخوارزمية بما سمعوه من قسّهم أو شيخهم. ومع هذا التحوّل، قد تتراجع سلطة رجل الدين كمفسّر وحيد للنص حين يحمل المصلون "عالِماً رقمياً" في جيوبهم. لكن هنا يبرز ما لا يمتلكه الذكاء الاصطناعي: التعاطف المباشر، وفهم السياق الشخصي، والقدرة على تحمّل الغموض، وحكمة التجربة.
التحيّز والمذاهب داخل الخوارزميات
لا يوجد نظام ذكاء اصطناعي محايد تماماً، فهو مرآة البيانات والتصميم. هنا يبرز سؤال شائك: كيف سيتعامل الذكاء الاصطناعي مع التنوّع الداخلي في الدين الواحد؟ هل سيمثّل بإنصاف مثلاً القراءتين السنّية والشيعية، أو الاختلافات الكاثوليكية والأرثوذكسية؟ أم سيميل حكماً إلى وجهة النظر الغالبة في بيانات تدريبه وتفضيلات المستخدمين؟
لا حياد بلا وعي بالمصادر والتمييز بين الرأي الغالب والأقليات المعرفية. المعالجة الذكية تبدأ من سؤال المستخدم نفسه: "أعطني قراءتين متباينتين"، "كيف ترى هذه المسألة مدرسة أخرى؟"، "ما موقف التقليد الرسمي، وماذا تقول الدراسات النقدية؟". وعلى مستوى التصميم: التنويع وإدراج شروح متعارضة، وإظهار مصادر الجواب وحدوده. الهدف ليس طمس الاختلاف بل عرضه بعدالة، وتمكين القارئ من المقارنة بدل تلقي "جواب واحد صحيح". عندها يتحوّل الاحتكاك بالتعدّد إلى تدريب على التعايش داخل الدين الواحد، لا إلى ترسيخ كليشيهات عن الآخر.
صعود "الدين المفصّل"
يتجه الدين نحو ما يمكن وصفه بـ"المفصّل على المقاس" مع أدوات الذكاء الاصطناعي التي تتيح لكل فرد تصميم رحلته الإيمانية، اختيار التأويلات والطقوس، والحصول على إرشاد شخصي وفوري بلا أحكام. هذا يلبي طلباً متزايداً على روحانية فردية خارج المؤسسات، ويمنح خصوصية في طرح الأسئلة الحساسة، لكنه يهدد سلطة المؤسسات الدينية وروابط الجماعة الدينية، إذ قد يتحول المؤمن إلى "لاهوتي لنفسه" وتضعف المعايير والطقوس المشتركة.
التخصيص المفرط قد يعزز الصدق الداخلي ويولد توليفات خلاقة، لكنه يكرس انتقاء إجابات توافق الهوى، وقد يدفع بالتالي نحو منتج روحي استهلاكي محسّن خوارزمياً يفتقر إلى التجربة التي تصنع النضج. وقد ظهرت مؤشرات عملية على ذلك في حزيران 2023، حين اجتمع أكثر من 300 بروتستانتي في ألمانيا لحضور قدّاس ولد تقريباً بالكامل بواسطة "ChatGPT"، إذ قادت شخصيات افتراضية على الشاشة الصلوات وألقت العظة من على المذبح. كان قدّاساً تجريبياً جمع بين الطرافة وعدم الارتياح.
العبادة الرقمية وحدودها
قدّمت جائحة كورونا اختباراً واسعاً للعبادة عبر الشاشات، واتجهت الممارسات إلى فضاءات افتراضية يقودها الذكاء الاصطناعي ورفاق صلاة رقميون، فتوسّعت الدائرة لتشمل من تعوقهم المسافات أو الإعاقات، مع لغات متعددة وخدمات متاحة على مدار الساعة. غير أنّ هذه التسهيلات الرقمية تصطدم بثغرات المصداقية والقداسة وغياب الجسد والحواس. كما أنّ الطقوس المؤسّسة تاريخياً لا تنتقل كاملاً إلى الوسائط الجديدة، خاصة الأسرار أو العبادات التي تتطلب حضوراً بشرياً مباشراً. وجودك في الحرم المكي من خلال تجربة غامرة "AR/VR" قد يغذي التقوى الفردية لكنه ليس بديلاً عن الحج. والراجح أن المستقبل هجيني بجعل الذكاء الاصطناعي مكمّلاً للشعائر الحضورية.
الذكاء الاصطناعي ليس منتجاً قائماً بذاته، إنه سمة لبرنامج أشمل. هو أداة قوية تتّسع بها إمكانات المعرفة والاتصال وقد تضيق معها مساحات الأصالة والجماعة إن تركت لآليات التخصيص وحدها. المسألة ليست "هل نستخدمه؟" بل "كيف؟ ولأي غاية؟ وبأي حراس؟".
