كثيراً ما يواجه الناس صعوبةً في التعبير عن شعورهم بالألم، خصوصاً وأن الألم هو عبارة عن شعورٍ شخصي عميق، ويكاد يكون من المستحيل التعبير عنه بدقة. وسواء كان المريض يصف أعراضه لطبيب أو يعبر عن ألمه لصديق، فإن وصف "مدى الألم" لشخصٍ آخر كان دائماً مسألة كلماتٍ وتخمين.
لكن كل ذلك بدأ يتبدل مع إعلان شركة الاتصالات اليابانية "إن تي تي دوكومو"، عن تطوير جهاز بالتعاون مع "مختبر قياس الألم" الياباني (الذي يقيس الألم عبر تخطيط كهربية الدماغ) وهو أول نظام في العالم لمشاركة إدراك الألم، ومصمم خصيصاً ليناسب حساسية الفرد.
ويعتبر ما قام العلماء اليابانيون خرقاً علمياً كبيراً لا سيما أن العلماء يحاولون منذ سنوات التوصل إلى تقنيةٍ مماثلة تمّكن من الشعور بالألم دون أي تقدم يُذكر. فمثلاً طورت بعض الشركات أذرع مزودة بأجهزة استشعار لحركة العضلات تتعرف على إيماءات اليد وموضعها وتستخدم التحفيز الكهربائي للتحكم في عضلات الذراع ومحاكاة الأحاسيس، لكن معظمها لم يُطرح في الأسواق بعد، ناهيكَ بأنها تختصر الألم بالذراع ولا تعبّر عنه بدقة.
فيما بقيت التجارب العلمية الأخرى، وأهمها تجربة معهد "نيذرلاندز" للأعصاب الهولندي التي استهدفت الكشف عن آلية شعور عينة من الأشخاص بألم الآخرين في الفص الجزيري من الدماغ، في إطار الدراسات ولم تتوسع أكثر من ذلك.
كيف تعمل هذه التقنية؟
وفقاً للعلماء اليابانيين تتمحور العملية حول ثلاثة مكونات رئيسية. فأولاً يُستخدم جهاز استشعار تحليل موجات الدماغ لجمع البيانات المتعلقة بمستويات حساسية الألم لدى الفرد، من ثم تُعالج هذه البيانات من خلال منصة "إن تي تي دوكومو" للتحسين البشري، والتي تُقدّر وتشارك الفروق الفردية في حساسية الألم، ما يسمح بمقارنة تجارب الألم المختلفة.
في المرحلة الثالثة والأخيرة يعيد جهاز التحفيز الذي يتم توصيله بالدماغ إنتاج أحاسيس ألم معايرة، وهذا ما يتيح لشخصٍ آخر تجربة ما شعر به الشخص الذي يعاني من الألم بطريقةٍ دقيقة.
بتحويل المعلومات الذاتية إلى نموذج موحد قائم على الإدراك الحسي لكل متلقٍ، تنشئ هذه العملية إطاراً لمشاركة الأحاسيس بين الأشخاص، ما يسمح بإعادة إنتاج الألم الذي يشعر به شخص ما لشخص آخر بمستوى يضاهي قدرته على التحمل.
نقلة نوعية في الرعاية الصحية والترفيه والمجتمع
ستحدث القدرة على تحويل الألم إلى إشارةٍ قابلة للنقل تأثيرات واسعة النطاق. فبالنسبة للمرضى والأطباء، يمكن أن تساعد هذه القدرة على سد الفجوات طويلة الأمد في التشخيص والعلاج من خلال توفير رؤى قابلة للقياس لما كان يعتبر تجربة ذاتية غير قابلة للقياس في السابق. وبالنسبة للعاملين الذين يعانون من التحرش أو الأذى النفسي الخفي، يمكن للتقنية الجديدة أن تحوّل الضرر غير المرئي إلى واقعٍ ملموس يمكن الشعور بدرجته. وفي مجالات الترفيه، مثل الألعاب والواقع المعزز، قد يجد المبدعون فيها طرقاً جديدة تتيح للمستخدمين استكشاف أشكال من التعاطف والانغماس كانت بعيدة المنال سابقاً.
وحسب العلماء اليابانيين، فإن التطبيقات المباشرة لتقنية مشاركة الألم تكمن في المقام الأول ضمن المجال الطبي، بدءاً من إعادة التأهيل ومراقبة المرضى وصولاً إلى سيناريوهات التدريب التي يكون فيها التعاطف بالغ الأهمية. أما في الواقع المعزز والألعاب، فقد يجري المطورون عبرها تجارب قائمة على العواقب، ما يدفع عالم الألعاب والواقع المعزز إلى آفاقٍ جديدة. وبعيداً عن هذه المجالات، توفر هذه التقنية القدرة على تصوّر الألم وبالتالي تساهم في معالجة الإساءة والمضايقة وغيرها من الأضرار التي غالباً ما يصعب إثباتها أو قياسها.
قفزة ثورية تتجاوز اللمس التقليدي
إلى ذلك، وفيما تحاكي تقنيات اللمس التي يجري تطويرها حالياً في العالم الضغط أو الاهتزاز الخارجي، فقد صُمم نظام "إن تي تي دوكومو" و "مختبر قياس الألم" لنقل التجربة الذاتية للإحساس الداخلي، معيداً صياغة الألم كـ"إشارة" تواصلية جديدة في التفاعل بين الإنسان والتكنولوجيا.
ومع رقمنة الحركة واللمس والشم وحتى التذوق، يمثل الألم المرحلة التالية، وربما الأكثر حساسية، في التفاعل بين الإنسان والتكنولوجيا. وبينما يشير هذا التطور إلى خطوة نحو أشكال أكثر شمولاً من التواصل الرقمي تتجاوز التجارب البصرية والسمعية، فإنه يثير نقاشاً جديداً حول مدى عمق تفاعل التكنولوجيا مع الإحساس البشري.
وبالفعل أثار إعلان العلماء اليابانيين عن هذا الإنجاز العلمي تساؤلاتٍ جديدة حول الموافقة والأخلاقيات والحدود العاطفية، نظراً لأن إعادة إنتاج الألم تتجاوز حدوداً أكثر حساسية بكثير من نقل البصر أو الصوت أو الحركة.
