فاماغوستا القبرصية: مدينةُ أشباح.. وحنينٌ إلى بيروت الستينات

محمد أبي سمراالأربعاء 2025/10/15
مدينة فاماغوستا القبرصية (محمد أبي سمرا)
مدينة هُجِرت فجأة من البشر وتجمدت في الزمن منذ 50 سنة (محمد أبي سمرا)
حجم الخط
مشاركة عبر

قد تكون قبرص جزيرة- بلدًا منسيًا في أقصى شمال البحر المتوسط الشرقي، غير بعيد من شاطئ آسيا الصغرى أو هضبة الأناضول التركية، ومن الشاطئين السوري واللبناني.

بلدٌ جزيرة ومنسيّ؟ ألا يضاعف هذا عزلته؟ 

بلى. لكنه يبدو راضيًا هانئًا بالعزلة والنسيان في الماء، وتحت شمس اعتدال الخريف التشريني اللطيف. سكانه أو أهله قليلون، ويعيشون راضين مرضيين بقلتهم، وبحياتهم منشطرين منقسمين منذ 50 سنة. وكبعد الشمس عن الماء بعيدون عن مآسي الشرق الأوسط، السورية واللبنانية والفلسطينية، وعن الوحشية الإسرائيلية في غزة، على شواطئ المتوسط الشرقية الآسيوية القريبة من قبرص، كشواطئ تركيا الجنوبية المتوسطية.

 

نزاع متأرّث وموقوف

والجزيرة العزلاء والمنسية اليوم -إلا كوجهة سياحية تحت سماء المتوسط الصافية وشمسه الدافئة- كانت طوال تاريخها القديم والمعاصر أرضًا ومحطة أساسية لصراع الإمبراطوريات الكبرى القارّية، الآسيوية والأوروبية: اليونانية المقدونية، والفارسية، والرومانية، والبيزنطية، والعربية الإسلامية، والعثمانية بعد الحروب الصليبية؛ وصولًا إلى الاستعمار الإمبراطوري الحديث، البريطاني، الذي تقاسم مع فرنسا العالمَ بين منتصف القرنين التاسع عشر والعشرين.

آثار في مدينة فاماغوستا القبرصية (محمد أبي سمرا)

وشأن قبرص في هذا التاريخ المديد والمعقد، شأن تاريخ بلدان السواحل المتوسطية الشرقية والجنوبية، من آسيا الصغرى إلى المغرب الأقصى وإسبانيا. ومثل بلدان المشرق العربي المتوسطية، عاشت الجزيرة، بعد استقلالها عن بريطانيا في العام 1960، اضطرابًا وانقسامًا وحوادث عنف بين جماعاتها: القبارصة اليونانيون المسيحيون (نحو 80 في المئة من سكانها) الساعون في الانضمام إلى اليونان، خوفًا من تركيا. والقبارصة الأتراك المسلمون (نحو 18 في المئة) الذين كانوا يسعون إلى استقلال كامل أو الانضمام إلى تركيا، خوفًا من اليونان. لكنهم صاروا اليوم راغبين في الانضواء في قبرص موحدة.

وبالتزامن مع بدايات الحروب الأهلية الإقليمية في لبنان (1975 - 1990) اندلعت بين الجماعتين القبرصيتين أعمال عنف واسعة النطاق في الجزيرة، نتيجة انقلاب عسكري قاده في العام 1974 ضباط قبارصة موالون للنظام العسكري اليوناني آنذاك. ردت تركيا على الانقلاب باجتياح جيشها مناطق شمالية واسعة من الجزيرة. وهذا ما أدى إلى ذعر ونزوح قوميين- طائفيّين بين الجماعتين القبرصيتين، وإلى تدخل قوات الأمم المتحدة للفصل وحفظ السلام بينهما.

على خلاف الانقسامات والنزاعات الأهلية المتأرثة في قبرص كما في بلدان المشرق العربي المستمرة فيها الشقاقات والحروب حتى اليوم، لم يستمر الاحتراب القبرصي والإقليمي في الجزيرة أكثر من شهر واحد في العام 1974. 

موقع الجزيرة الجغرافي في زاوية البحر المتوسط الشمالية الشرقية بين آسيا الصغرى (تركيا) وسوريا ولبنان الآسيويين، لا يؤهلها لأن تكون أوروبية. لكن، قد تكون الاستراتيجيات السياسية والعسكرية لكلٍّ من أوروبا وحلف الناتو - وهو يضم الدولتين القوميتين، التركية واليونانية المتعاديتين عداء مكتومًا، لمجابهة ما كان حلف وارسو السوفياتي- هي التي غلّبت الجغرافيا السياسية على الجغرافيا الطبيعية لقبرص، وانتزعتها من الحضن الآسيوي الطبيعي. وعلى الأرجح أن الاحتلال البريطاني هو الذي ضمها إلى أوروبا، قبل عقود ثلاثة من هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وانكفائها القومي الأتاتوركي إلى الداخل الأناضولي.

لكن الحرب الأهلية الإقليمية القبرصية التي استمرت شهرًا من صيف 1974، أدت إلى انشطار الجزيرة وانقسامها جغرافيًا وأهليًا وسياسيًا إلى جمهوريتين يفصل بينهما ما يسمى الخط الأخضر -وهو في الحقيقة والواقع شريط من الأرض الخلاء والقفر بين أسلاك شائكة بها معابر حدودية- بحراسة قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. والجمهوريتان هما:

- جمهورية شمال قبرص التي تشمل مناطق شمالية شرقية من الجزيرة التي دخلها الجيش التركي وسيطر على تلك المناطق صيف 1974. وهي تشكل 37 في المئة من مساحة الجزيرة، ونزح أو فرّ منها نحو 200 ألف قبرصي يوناني إلى الجنوب، حيث تقيم الأغلبية السكانية القبرصية اليونانية. وحدها تركيا تعترف بهذه الجمهورية العارية من أي اعتراف دولي بها.

- الجمهورية القبرصية في الجنوب، وتبلغ مساحتها 60 في المئة من مساحة الجزيرة، وفرّ منها صيف 1974 نحو 50 ألف قبرصي تركي نحو الشمال. هذه الجمهورية هي المعترف بها دوليًا وتتمتع بعضوية كاملة في الأمم المتحدة، وانضمت إلى الاتحاد الأوروبي.

واحتفظت بريطانيا بقاعدتين عسكريتين في جمهورية قبرص الجنوبية. وتعتبر القاعدتان أرضًا بريطانية كاملة السيادة. وهما تقعان على شواطئ قبرص الجنوبية القريبة من سوريا ولبنان والمشرق العربي عمومًا. وللقاعدتين أهمية استراتيجية بريطانية وأوروبية، وفي استراتيجيات الناتو.

 

المفارقة القبرصية

على خلاف الحروب الأهلية الإقليمية المشرقية المديدة والمدمرة في لبنان والعراق وسوريا، فإن الحرب القبرصية القصيرة لم تدمّر العمرانَ في الجزيرة. فإبادة العمران (الحجر والبشر) وسياسة الأرض المحروقة لم تكونا من أهداف الحرب التي اتخذت شكل تبادل السكان بين المناطق، وتجنّبت تدمير العمران وتركته مهجورًا أو موقوفًا وعلى حاله، بلا إعمال التخريب والنهب والحرق فيه، على خلاف أو نقيض ما حدث منذ بدايات الحروب في لبنان أولًا، وفي سوريا لاحقًا.

مدينة فاماغوستا القبرصية

ربما هناك عوامل متداخلة أو متقاطعة أدت إلى وقف الحرب سريعًا في قبرص: تدخّل قوات الأمم المتحدة، التي كانت موجودة في الجزيرة منذ اندلاع العنف متقطعًا بين الجماعتين القبرصيتين في العام 1964. الضغوط الدولية والبريطانية على اليونان وتركيا لوقف الحرب، والحؤول دون تدمير العمران في المدن التي تبادل سكانها من الجماعتين الفرار منها طلبًا للأمان في مناطق أخرى متجانسة الهوية القومية والدينية. ثم إن هدف الحرب اقتصر على تقاسم الأرض والسلطة وتبادل السكان.

لكن هذه المفارقة القبرصية التي قسّمت الجزيرة إلى جمهوريتين، وشطرت عاصمتها نيقوسيا، المدينة الداخلية غير البحرية، إلى شطرين، نجم عنها تفاوت سياسي واقتصادي بين قبرص اليونانية وقبرص التركية، بعد حرب صيف 1974 القصيرة، السريعة والخاطفة: نهضت اليونانية سريعًا بعد الحرب، مستفيدة من السياحة والاعتراف الدولي بها، ومن التحاقها أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، وأخذها ببعض معاييره السياسية والاقتصادية والقانونية، التنظيمية والإدارية. أما قبرص التركية فظلت أقل نموًا من قرينتها اللدود، في الاقتصاد والإدارة والتنظيم العمراني وفي منشآت البنية التحتية. وذلك لأسباب عدة: التحاقها/ إلحاقها بتركيا، الحصار السياسي المضروب عليها دوليًا، وعدم الاعتراف الدولي بها.

ومن علامات التفاوت البارزة بين القبرصين: الحيوية والنشاط الكبير في مطار لارنكا الدولي في قبرص اليونانية، حيث تتكاثف ولا تتوقف حركة الطيران الدولي، هبوطًا وإقلاعًا، على مدار ساعات اليوم الـ24. أما في قبرص التركية فهناك مطار محلي في الشطر الشمالي الشرقي من مدينة نيقوسيا. ولهذا المطار اسم باللغة التركية: أرجان. والرحلات الجوية منه وإليه تمر كلها في المطارات التركية، كاسطنبول وأنطاليا، وتكاد تقتصر على رحلات شركة الطيران المدني التركي. والحركة السياحية في قبرص التركية ملحقة بدورها إما بالسياحة في تركيا وإما بالسياحة في قبرص اليونانية.

 

فاماغوستا - بيروت

في الستينات والنصف الأول من سبعينات القرن العشرين -أي قبل حرب صيف 1974 التي شطرت قبرص وقسّمتها- كانت مدينة فاماغوستا على شاطئ شمال الجزيرة الشرقي من أشهر المنتجعات السياحية في العالم: شواطئ ذهبية الرمال نقية المياه بزرقتها السماوية، وتمتد كيلومترات أمام أحدث أحياء المدينة -فاروشا- حيث الفنادق ومنشآت الخدمات السياحية الفخمة للاستجمام والترفيه والتسوق. وفي منتجعات فاماغوستا وعلى شواطئها وفي مدينتها الأثرية التي كانت تضاهي البندقية منذ بدايات عصر النهضة الأوروبية في إيطاليا، كان يلتقي مشاهير نجوم الفن والسياسة في العالم، فيُذكر منهم إليزابيت تايلور، بريجيت باردو، وريتشارد بورتن...

شاطئ في مدينة فاماغوستا القبرصية (محمد أبي سمرا)

لم تكن المنتجعات الفاخرة وحدها جاذبًا سياحيًا إلى المدينة القبرصية الأشهر في الستينات والنصف الأول من السبعينات. هناك أيضًا المدينة الأثرية التي كانت المركز والميناء الأهم لأمبراطورية البندقية التجارية، وفي السيطرة البحرية المتوسطية والتجارة مع شرق المتوسط. هذا بعدما جعلت فاماغوستا أقوى المدن الحصينة على شواطئ المتوسط الشرقية في القرن 15، وشيّدت فيها 25 كنيسة وكاتدرائية وفق طراز العمارة القوطية، وأحاطتها بأسوار وأبراج هائلة، لا يزال بعضها قائمًا حتى اليوم.

وعندما حاصر العثمانيون المدينة القبرصية الأهم 11 شهرًا، كان حصارهم إياها أطول وأشرس حصار في القرن 16. وبعدما فتحوها حوّلوا معظم كنائسها إلى مساجد. فالكاتدرائية الأكبر فيها، كاتدرائية القديس نيقولاس، تحولت إلى مسجد لالا مصطفى باشا، ووُضع فيها ضريح أحد الأولياء العثمانيين. وربما بعدما انتزع البريطانيون قبرص من السيطرة العثمانية واحتلوها في العام 1878 وجعلوا ميناء فاماغوستا الأول في الجزيرة لتصدير النحاس والقطن، وبدأ ينشأ فيها حي فاروشا الحديث وينمو كمنتجع سياحي فاخر، راح يشيع رقم أسطوري أو خرافي (36) لأعداد الكاتدرائيات والكنائس القديمة في المدينة الأثرية. وقد يكون ذلك لتمجيد تراثها المسيحي وجعله عاملًا في نشر الدعاية السياحية لها.

الكنيسة في مدينة فاماغوستا القبرصية (محمد أبي سمرا)

قبل أن تنطفئ فاماغوستا صيف 1974، كان عدد سكانها 40 ألف نسمة معظمهم من القبارصة اليونانيين، الذين فروا منها مع ألوف السياح مذعورين قبيل وصول القوات التركية إليها. تركوا خلفهم كل شيء. بعضهم فرّ بثياب النوم. آخرون ركضوا هلعين جارين حقائب صغيرة. أصحاب البيوت بدأوا يخفون أوراقهم الثبوتية والمجوهرات في جدران المنازل. ناس يحملون أطفالًا وأكياس ملابس ويسيرون جنويًا، نحو ديرنِيا ولارنكا. مراوح تدور في الغرف. مشرعة نوافذ بيوت كثيرة. ثياب معلقة على حبال غسيل على الشرفات. سيارات خالية متروكة وسط الشوارع، أبواب بعضها مفتوحة. وبدورها أبواب المتاجر مفتوحة وخالية إلا من السلع على رفوفها ومن النقود في صناديقها. أسرّة في غرف الفنادق والمنتجعات لا تزال في أغطيتها حرارة ضئيلة من أثر نوم متأخر. ألعاب أطفال مبعثرة على الأرصفة... وفي المساء كانت الأضواء تلمع خاوية في المباني وغرف الفنادق، فيما المدينة خالية إلا من الصمت. فناجين قهوة باردة مهجورة على طاولات مقاهي الأرصفة. كؤوس نبيذ أو ويسكي مهملة على بارات الحانات الليلية... عشرات ألوف من القبارصة اليونانيين والسياح الوافدين من أرجاء الأرض فروا من المدينة في أمواج بشرية مذعورة في نهار واحد. أضواء ظلت مشعشعة في خواء المدينة في الساعات الأولى من تلك الليلة، ثم انطفأت وساد ظلام وصمت دفعة واحدة... ومنذ 14 أب 1974 وحتى اليوم توقفت عقارب الساعة في فاماغوستا.

 

مدينة فاماغوستا القبرصية (محمد أبي سمرا)

وحتى اليوم لا يزال حي فاروشا السياحي الدولي خالياً تمامًا إلا من أشباح ماضيه، ومن مبانيه الشبحية. لا بد أن شيئًا من الاستباحة ونهب السلع والأثاث والتجهيزات قد شابا الحي السياحي الفاخر لبعضٍ من الأيام. لكن عمرانه وبناياته كلها ظلت على حالها خالية مهجورة، كأنها ديار وقف أو موقوفة، فلم يمسسها تخريب بشري، بل تُركت لما يحدثه الزمن بطيئًا بطيئًا من تآكل في العمران، ولما يتركه الزمن على الإسمنت وسائر مواد البناء من صدأ وهجران، ونمو عشب ونباتات برية على جدران البنايات المهجورة وجنباتها. فالجيش التركي عمد سريعًا إلى تسوير فاروشا بالأسلاك الشائكة، ومنع العودة والدخول إليها مطلقًا، أما فاماغوستا الأثرية القديمة، فمكث فيها سكانها القبارصة الأتراك واستقبلوا فيها أمثالهم وأقرانهم الفارين والمهجرين من أنحاء قبرص اليونانية.

وفي العام 2020، فتحت سلطات قبرص التركية حي فاروشا المهجور لجولات سياحية نهارية منظمة تجوبه سيرًا على الأقدام وعلى دراجات هوائية وفي سيارات تعمل على بطاريات مشحونة بطاقة كهربائية. وهذا أثار غضب القبارصة اليونانيين، ربما لأنه يجذب سياحًا من قبرصهم المزدهرة سياحيًا، فيما اعتبرته الأمم المتحدة خرقًا للاتفاقات بين القبرصين. لكن اللافت أن الاستفتاء على توحيد قبرص، والذي نظمته الأمم المتحدة في العام 2024، جاءت نتائجه على النحو الآتي: 65 في المئة من القبارصة الأتراك صوّتوا بنعم للوحدة، فيما صوّت 67 في المئة من القبارصة اليونانيين بلا... وظلت قبرص على حالها منقسمة.

مدينة فاماغوستا القبرصية (محمد أبي سمرا)

في العام الحالي (2025) استذكر لبنان مرور 50 سنة على بدايات حروبه الأهلية الإقليمية طوال 15 سنة أعقبتها جولات حروب كثيرة مدمرة، لا تزال تتناسل حتى اليوم. وزامنت بدايات الحروب في لبنان، تلك التي قسّمت قبرص، وكانت بدورها أهلية إقليمية، لكنها لم تستمر سوى شهر واحد. ولبنان وبيروت الستينات والنصف الأول من السبعينات، كانا مثل قبرص وفاماغوستا، وجهة سياحية دولية وعربية ناشطة. وكانت الزيتونة ورأس بيروت وشارع الحمراء والروشة وشاطئ الرملة البيضاء وصولًا إلى الأوزاعي، تماثل فاروشا القبرصية بنشاطها السياحي. أما بعلبك وصور وجبيل وصيدا وبيت الدين ودير القمر، فكانت وجهات للسياحة الأثرية والثقافية النشيطة، كما في فاماغوستا الأثرية القديمة.

لكن على خلاف الحرب الأهلية الإقليمية التي لم تدم أكثر من شهر واحد في قبرص لتقسيمها إلى بلدين و"دولتين"، تاركة عاصمة الجزيرة السياحية، فاماغوستا، عامرة بأشباح ماضيها السياحي وبعمرانه الموقوف والمهجور على حاله مقفرًا طوال 50 سنة، لتفتتح أخيرًا لسياحة الذكريات والحنين؛ على خلاف هذا كله أبقت الحروب الأهلية الإقليمية لبنان "بلدًا واحدًا موحدًا" يتآكل ويتحلل ويتعفن من داخله، و"دولة واحدة موحدة" يهوي بها أهلها وزعماؤهم الشرهون إلى المال والتسلط نحو حضيض الفساد والتحلل الوبائي العميم. وهذا ما اقتفى أثره ووصفه أحمد بيضون في كتابه الأخير "في مهب النكبة اللبنانية" ("دار الريس"، بيروت، 2025). هو خلُص إلى أن لبنان غرق في "أزمة مفتوحة باتت عصيّة على العلاج، منذورة للتفاقم" في بلدٍ استسلم لـ"الذواء أو التهالك" أو "التهافت"، بلا أمل لقيامته منهما على الأرجح. ذلك أن "مقاليد البلاد باتت اليوم في أيدي قوى العالم والمحيط المتصدرة، توجهها على هوى النزاع الإقليمي الجاري بأشد صوره عنفًا وأوثقها اتصالًا بالصراع الدولي في أوسع حلباته". وها أشرس قوة عسكرية استعمارية في الشرق الأوسط تستبيح يوميًا الديار اللبنانية، التي ليس لدى أهلها سوى ما هب ودب من أصناف الكلام المرسل، الخاوي إلا من صغائر العداوات والثارات المتعفنة. 

وحتى الحنين السوداوي أو الرومنطيقي إلى لبنان الستينات صار مستحيلًا في هذه الحال. فالتحلل الوبائي اجتاح الوقت والزمن والكلمات والأشياء، واستنقع في دواخل التفاصيل المادية والمعنوية والأخلاقية اللبنانية. وهذا جعل من روائح العفن وحدها فوّاحة في هذه البلاد. وربما على من يرغب في نسمة حنين لذاك اللبنان أن يمشي سائحًا في شوارع فاروشا القبرصية المهجورة وبين عمرانها الذي لا يزال على حاله خاويًا وموقوفًا وتجمّد في الزمن منذ 50 سنة.

 

المدينة المحنّطة وبلاد الأطلال

والمشي في مدينة هُجِرت فجأة من البشر وتجمّدت في الزمن منذ 50 سنة، ألا يشبه المشيَ في مقبرة مكشوفة في الهواء الطلق، هواء الأبد؟ هي مدينة كانت للسياحة ومضت 50 سنة على موت الحياة فيها، فتحولت معلمًا أثريًا لسياح جُدد يمشون على إسفلت شوارعها الصقيل في سواده الجديد كالمرايا التي يتأبد فيها الزمن.

مدينة فاماغوستا القبرصية (غيتي)

نعم، هنا في شوارع فاروشا، يمشي السياح كأنما في مقبرة مباني مدينة محنّطة. خفافًا يمشون، أو كطيور مهاجرة يتراجعون في الزمن، ويعيشون في لحظات خلود عابر. وسط ديكور مدينة الهجران والصمت الدهري يتحركون، وتطلع منهم أصوات وكلمات موقوفة خارج الحياة والزمن.

ربما تذكّر السياحة في فاروشا بسياحة الخراب في وسط بيروت القديم، بعد حرب السنتين (1975- 1976). نعم، لقد تركت جولات حرب القتل والخطف والقنص والقصف والنهب طوال سنتين في وسط بيروت، معالمَ وبقايا مبانٍ وعلامات استدلال للتذكر والحنين. وصدّق اللبنانيون أنذاك أن حروبهم توقفت، فجاؤوا إلى قلب عاصمتهم وإلى خطوط التماس الحربية التي شطرتها وضواحيها، متنزهين وسائحين وسط ديكور الخراب. لكنهم سرعان ما استأنفوا حروبهم أعنف من ذي قبل، في جولات استغرقت سنوات وأعمار أجيال، حتى تسلّمت زمامها أعتى قوة عسكرية استعمارية في الشرق الأوسط.

اكتفى القبارصة بشهر واحد من الحرب والرعب وتبادل التهجير السكاني. وهم جعلوا فاروشا المهجورة مدينة محنّطة لسياحة الأطلال. أما اللبنانيون فيستمرون منذ 50 سنة بالتخبط في أطلال بلدهم، حتى صاروا هم أطلالًا ومجتمعًا من الأطلال.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث