على شواطئ مدينة جبيل (بيبلوس) اللبنانية، إحدى أقدم المدن المأهولة في العالم، وأهم المواقع الأثرية وأكثرها زيارةً في لبنان، تقبع واحدة من أبرز الشواهد على الحضارة الإنسانية: المدافن الملكية التي تعود إلى العصر البرونزي (من 3300 حتى 1200 قبل الميلاد). تتألف هذه المدافن من أنفاق وغرف تضم نواويس لعدد من الملوك الفينيقيين.
ليست المدافن الملكية في جبيل مجرد مقابر قديمة؛ بل هي شاهد حي على ولادة الأبجدية. ففي أحد هذه المدافن، عُثر على ناووس أحيرام الذي يحمل أقدم نقش معروف بالأبجدية الفينيقية، وهي السلف المباشر لمعظم أنظمة الكتابة في العالم اليوم. وتُعدّ هذه المدافن مصدرًا أساسيًا للمعلومات عن عادات الحضارة الفينيقية وتقاليدها وإنجازاتها وفنونها، وتملك قيمة علمية لا تقدّر بثمن. ومن بين النواويس السبعة المكتشفة في هذه المدافن، هناك ناووس أبيشِمو، ملك بيبلوس حوالي العام 1750 قبل الميلاد تحت حكم مصر القديمة، ويتميز بغطاء حجري تعلوه أخاديد طولية.
ناووس أبيشِمو: حراسة غائبة أو محدودة
على الرغم من إدراج المدافن الملكية في جبيل على قائمة اليونسكو للتراث الإنساني العالمي منذ العام 1984، وخضوعها رسمياً لإشراف المديرية العامة للآثار اللبنانية، فالواقع على الأرض يكشف عن قصة أخرى؛ فقد أصبحت اليوم عرضة لخطر النهب أو العبث والتخريب والتلف التدريجي في غياب شبه تام للحراسة. إذ يُترَك باب ناووس أبيشِمو مفتوحاً، ويستطيع أيّ شخص التجول بحرية داخل موقعه من دون أيّة رقابة.
هذا ما التقطته كاميرا إحدى زائرات مدينة جبيل منذ أيام قليلة وأرسلتها لـِ "المدن". فقد تمكنت من الدخول إلى الموقع في محيط قلعة جبيل، لتجد الباب مفتوحًا دون أيّة حراسة، ووصلت إلى ناووس أبيشِمو وقامت بتصويره. وذلك بالرغم من إلزامية الدفع قبل الدخول إلى القلعة ومحيطها، إلا أن غياب المراقبة يعني أن الزائر يمكنه أن يفعل أيّ شيء داخل الموقع الأثري، من عبثٍ وتخريب ورشّ غرافيتي وصولًا إلى السرقة، التي قد تتم عبر تحطيمٍ جزئي للناووس وتهريب أجزاء معينة منه.
في الفيديو الأول (في الأعلى) أظهرت المشاهد كيف جرى إهمال المكان، حيث تقع المغارة التي تضم المدافن، وعدم وجود باب أو سياج حولها لمنع العبث بها. أما الفيديو الثاني (في الأدنى) فصورته داخل المدافن، حيث يظهر ناووس أبيشِمو متروكاً للعبث.
سبق وتفاقمت ظاهرة نهب الآثار وتخريب المواقع التراثية الثقافية في لبنان، بعد الانهيار الاقتصادي والمالي في العام 2019. وقد أسهم تراجع إجراءات الحماية، ونقص العناصر الأمنية بسبب تدنّي الرواتب، في تهيئة البيئة الحاضنة لهذه الجرائم. في المقابل، دفعت الأوضاع الاجتماعية المتدهورة بالمزيد من الباحثين عن مصادر العيش إلى الإتجار بالآثار. هذا إضافة إلى تعرّض مواقع أثرية ومعالم تراثية عديدة في مناطق جنوبية وبقاعية، للتدمير الكلي أو الجزئي بسبب القصف الإسرائيلي في الحرب الأخيرة.
البلدية تلقي المسؤولية على مديرية الآثار
في تصريح لـِ "المدن"، حدّد أحد أعضاء بلدية جبيل نطاق مسؤولية البلدية ببيع بطاقات الدخول وتأمين الحراسة على المدخل الخارجي فقط، مؤكّداً أن حراسة الآثار داخل الموقع تقع ضمن نطاق مسؤولية المديرية العامة للآثار. وأشار إلى أن الحراسة على المدخل الخارجي تمنع إدخال أيّة أدوات مشبوهة أو إخراج أيّة قطع أثرية. غير أن هذه الإجراءات تبقى غير كافية للحيلولة دون أعمال العبث والتخريب التي تستهدف الآثار داخل الموقع، حيث تفتقد الحراسة الخارجية لمقومات الرقابة الفاعلة على كامل مساحة الموقع الأثري، مما يتركه عرضة للانتهاك والضرر.
"المدن" تواصلت مع المديرية العامة للآثار، لمعرفة مدى نطاق مسؤولية المديرية والبلدية وإذا كانت البلدية، حيث تقع الآثار في نطاقها البلدي، تتنصل من مسؤولية الحراسة، لكن المدير العام سركيس خوري لم يجب على الأسئلة التي طرحتها "المدن". وقد تواصلت "المدن" العديد من المرات، وعلى مدى نحو أسبوع، للاستفسار عن الظروف التي أدت إلى ترك المدافن الملكية في جبيل من دون حراسة، ومن يتحمّل مسؤولية ذلك، وعن الإجراءات الكفيلة بحماية المواقع الأثرية. لكنه لم يجب بتاتاً، وهو الأمر الذي يترك الباب مفتوحًا أمام التساؤلات حول إجراءات حماية تلك المواقع، ووجود ميزانية مخصّصة لها. وهل أن باقي الآثار في لبنان وضعها مثل مدافن جبيل.
في الوقت الذي تتجه فيه الأنظار إلى الأزمات السياسية والأمنية في لبنان، يجب ألا ننسى أن إهمال هذه المواقع الأثرية هو جريمة بحق التاريخ. مدافن جبيل الملكية ليست ملكًا للبنان وحده؛ بل هي إرث إنساني عالمي. وقد أُدرِجت المدافن، إلى جانب جميع المواقع الأثرية في مدينة جبيل، ضمن قائمة "الحماية المعززة" بناءً على طلب السلطات اللبنانية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024. والمفارقة أن هذا الاستنفار الرسمي في زمن الحرب، يقابله اليوم إهمالٌ رسمي واضح.
