"عرب ثيرابي": كيف يتخلص السوريون من بقايا الخراب في دواخلهم؟

فاطمة عمرانيالأحد 2025/10/12
سوريا دمشق (غيتي)
البقاء على قيد الحياة بعد الحرب لا يعني أن النفس قد تعافت (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

ليس السؤال كيف ننجو من الحرب؟ فالنجاة ربما حدثت بالفعل. ملايين السوريين ما زالوا أحياء، لكن الحياة لم تُسترجع بعد. السؤال الحقيقي هنا: ماذا نفعل بكل ما حملناه معنا من الحرب؟

الخروج من خضمّ المعارك لم يكن خروجًا نظيفًا. كل شخص يحمل بقايا الخراب داخله: لحظات رعب تتكرر في الأحلام، فقدان يتسلل إلى التفاصيل اليومية، جسد يثقل كل خطوة، وشعور بأن المستقبل بعيد. الحرب لم تبقَ في الماضي؛ بل رافقت الناجين إلى منازلهم، وإلى مدارس أطفالهم.

 

هذا الإرث النفسي لم يعد أثرًا جانبيًا، بل أصبح جزءًا من الحياة اليومية نفسها. هنا وُلدت مبادرة "عرب ثيرابي": مساحة للتعامل مع الجرح، ليس كوصمة أو حاجز لا يُخترق، بل كحقيقة يمكن مواجهتها وإعادة ترتيبها تدريجيًا. في الغرف الواقعية والافتراضية، يمكن للمراجعين وضع أعبائهم على الطاولة، فيما يتحول الكلام إلى خيط يربط شظايا الداخل المكسور، لتبدأ النفس شيئًا فشيئًا في استعادة إحساسها بالتوازن والقدرة على التماسك.

 

منصة متخصصة في العلاج النفسي

منصة "عرب ثيرابي" المتخصصة في العلاج النفسي لا تقدّم مجرد جلسات علاجية مجانية، بل تعيد صياغة سؤال النجاة: كيف يمكن تحويل "حالة البقاء" إلى "حياة طبيعية"؟ وكيف يمكن للمساحة الآمنة للكلام أن تصبح أول خطوة حقيقية لإعادة ترتيب الداخل قبل الخارج؟

 

المعاناة النفسية صارت جزء من الهوية السورية. في الحياة اليومية للسوريين، يختبئ الماضي في كل لحظة، وأصغر التفاصيل يمكن أن تُذكّر الفرد بالخطر والخسارة حتى لحظات الصمت!

يبين د. طارق دلبح مؤسس منصة "عرب ثيرابي" والطبيب النفسي، أن المعاناة النفسية لم تعد مجرد "ذكرى" من الماضي، بل أصبحت متجذرة في الحاضر، وتشكل جزءًا أساسيًا من الهوية اليومية للفرد والجماعة. الحروب الممتدة لا تترك أثر الصدمة المباشر فقط، بل تتحول إلى ما يُعرف في الطب النفسي بالـ"صدمة المزمنة" (Chronic Traumatization)، حيث يعيش الفرد حالة مستمرة من فقدان الأمان والحرمان والضغط المعيشي الذي يعيد تفعيل ذكريات الألم يوميًا.

 

اضطراب ما بعد الصدمة

أبحاث عدة على اللاجئين السوريين أكدت هذا الأمر، حيث أظهرت نسبًا مرتفعة جدًا من اضطراب ما بعد الصدمة، الاكتئاب، واضطرابات القلق، ليس بسبب الماضي فقط، بل بسبب ظروف الحاضر. وفقًا لـ د. المغربي، المعاناة النفسية عند السوريين تتجلى بشكل ملموس في تفاصيل الحياة اليومية، إذ يظهر ذلك أولاً في النوم، حيث يشكو كثيرون من الأرق والكوابيس المتكررة، ويصفون نومًا متقطعًا أو يقظة ليلية مفاجئة ترتبط بصور الحرب أو بالخوف من المستقبل. وفي مجال العمل، تبدو الصعوبات واضحة في ضعف القدرة على التركيز، وانخفاض المبادرة والتخطيط، إضافة إلى شعور مستمر بالإنهاك النفسي والجسدي، مما يحد من الإنتاجية. العلاقات الأسرية والاجتماعية كذلك لا تنجو من هذا الثقل، إذ يشيع الانسحاب الاجتماعي، والعصبية المفرطة، وصعوبة بناء الثقة مع الآخرين، الأمر الذي يجعل الروابط أكثر هشاشة ويدفع نحو تفكك اجتماعي جزئي. أما في المدرسة، فيظهر التأثير عند الأطفال في شكل اضطرابات في الانتباه، وقلق انفصالي، وسلوكيات عدوانية، حيث تتحول البيئة التعليمية في كثير من الأحيان إلى ساحة تعكس تراكم الضغوط العائلية والنفسية القاسية.

 

مقاربات علاجية ونتائج ملموسة

الدكتور أدهم المدير الطبي لعرب ثيرابي واستشاري الطب النفسي ورئيس قسم الحالات النفسية الحرجة بالمستشفى التعليمي لجامعة هامبورج قال لـ "المدن": "في تعاملنا مع الناجين من الحروب والنزوح، نعتمد على مزيج من المقاربات العلاجية المبنية على الدليل، ونكيّفها بحسب طبيعة كل حالة والموارد المتاحة. على رأس هذه المقاربات العلاجية يأتي العلاج السلوكي المعرفي الموجّه للصدمة، الفعّال في معالجة الأفكار المشوهة وتخفيف القلق واضطراب ما بعد الصدمة، إلى جانب العلاج بالتحريك العيني وإعادة المعالجة (EMDR) لإعادة تنظيم الذاكرة الصدمية، وهو موصى به دوليًا من منظمة الصحة العالمية. كما يلعب العلاج السردي دورًا مهمًا في إعادة صياغة معنى التجارب وربطها بسياق أوسع، فيما يوفر الدعم الجماعي النفسي الاجتماعي شعورًا بالانتماء ويكسر العزلة. وحتى التفاصيل الصغيرة مثل الالتزام بروتين يومي، إنجاز مسؤوليات بسيطة، وتمارين التنفس والتركيز على الحواس تعزز الأمان الجسدي، وتعد خطوة أولى لكسر الجمود النفسي الذي يشعر به الكثيرون من الناجين، الذين يصفون أنفسهم بأنهم 'نجوا جسديًا لكنهم عالقون نفسيًا'.

ولتطبيق هذه المقاربات بفعالية، تنظم الجلسات عن بُعد بحيث تكون الفردية 45–60 دقيقة أسبوعيًا في البداية، والجماعية 60–90 دقيقة كل أسبوعين تقريبًا، فيما الأطفال واليافعين لديهم جلسات أقصر وأكثر تكرارًا، مع متابعة مرنة عبر التطبيق لتقديم تمارين منزلية والرد على الاستفسارات.

 

يستخدم فريق "عرب ثيرابي" مؤشرات كمية ونوعية لقياس أثر المقاربات العلاجية على المستفيدين، هناك أدوات مقننة عالميًا مثل مقياس اضطراب ما بعد الصدمة PCL-5 ومقياس PHQ-9 ومقياس القلق GAD-7 لقياس شدة الأعراض قبل بدء التدخل وبعده. البيانات الداخلية تظهر انخفاضًا متوسطًا يتراوح بين 30 إلى 50% في شدة أعراض PTSD والاكتئاب بعد 8 إلى 12 جلسة بالإضافة إلى تحسن النوم، زيادة الحضور المدرسي للأطفال، عودة بعض المستفيدين لسوق العمل، وتراجع السلوكيات الانسحابية، مع ارتفاع الالتزام العلاجي 20–25% عند الجمع بين الجلسات الفردية والجماعية. وبحسب المنصة، ساعدت هذه الأدوات 231 مستفيدًا داخل سوريا و210 خارجها على استعادة شعور نسبي بالاستقرار النفسي.

 

كيف تتفاعل الفئات المختلفة مع الاستجابة النفسية؟

وفقًا لـ د. المغربي، الفروق في الاستجابة النفسية للحرب بين الأطفال والمراهقين والكبار واضحة. الأطفال يعانون من اضطرابات الانتباه، قلق انفصالي، وسلوكيات عدوانية أو انسحابية، لأن الحرب بالنسبة لهم تجربة تأسيسية. المراهقون يواجهون عبئًا مزدوجًا: صدمات الحرب وصراع الهوية، ما يجعلهم عرضة لفقدان الإحساس بالمستقبل أو الميل إلى سلوكيات خطرة. الكبار يعيشون إنهاكًا نفسيًا مزمنًا يظهر في العمل والعلاقات، وكأنهم عالقون في وضع "البقاء".

فئات أخرى بحاجة لتدخلات خاصة: الأطفال قبل سن المدرسة يستخدمون اللعب والرسم والقصص الموجهة للتعبير عن مشاعرهم، النساء المعيلات يحصلن على جلسات مرنة ومجموعات دعم وتدريب على إدارة الضغط النفسي وربط الخدمات الاجتماعية الأساسية، وذوي الإعاقات يحتاجون تكييفات بحسب نوع الإعاقة سواء تعليمية، بصرية، أو مكانية/تقنية. وفي كل هذه الحالات، يكون المبدأ الأساسي هو التكيف مع الاحتياجات الفردية وتوفير بيئة آمنة ومرنة، مع دمج الدعم النفسي بالعوامل الاجتماعية والعملية التي تعزز استقرار الحياة اليومية، لأن العلاج النفسي وحده لا يكفي إذا ظل الشخص يعيش في بيئة غير مستقرة أو محرومة من الموارد الأساسية.

 

من الجرح الفردي إلى التعافي الجماعي

يشير د. المغربي إلى أن الجلسات عبر الإنترنت أثبتت فعاليتها في تقليل الخجل والوصمة المرتبطة بطلب العلاج النفسي، خصوصًا بين اللاجئين والنازحين الذين يعيشون في بيئات حساسة تجاه هذا الموضوع. العديد من المستفيدين شعروا بأمان أكبر للتحدث من منازلهم، مما سمح لهم بالانفتاح العاطفي بشكل أسرع، مع توتر جسدي أقل ودفاعية أقل مقارنة بالجلسات الحضورية.

ويضيف لـ "المدن" أن الدمج بين العلاج الفردي والدعم الجماعي يعزز الشعور بالانتماء، يكسر العزلة النفسية، ويوفر مساحة للتفاعل الاجتماعي والدعم المتبادل. وتظهر النتائج الملموسة لهذا النهج في تحسن النوم، زيادة حضور الأطفال للمدارس، عودة بعض البالغين إلى العمل أو التدريب المهني، وتراجع السلوكيات الانسحابية، ما يعكس فعالية الجمع بين العلاج الفردي والجماعي في إعادة التوازن النفسي وبناء مهارات التكيف.

 

حياة بلا استقرار… جرح لا يلتئم

البقاء على قيد الحياة بعد الحرب لا يعني أن النفس قد تعافت. الاستمرار في بيئة غير مستقرة لسنوات يثقل على الفرد أكثر من الصدمة المباشرة، مثل فقدان شخص عزيز أو تجربة اعتقال. كل يوم في هذه الحياة يحمل تهديدًا جديدًا، وكل قرار يبدو محفوفًا بعدم اليقين، حتى يصبح العقل في حالة إنذار مستمرة والجسد مشدودًا بلا توقف، وكأن الجرح لم يُسمح له بالالتئام.

الفقر، البطالة، التهجير المتكرر، وانعدام الأفق لا تشكل فقط ضغوطًا مادية، بل تعمل كمنبه دائم يعيد إنتاج المعاناة النفسية يوميًا. يصبح الفرد في صراع داخلي مستمر: الرغبة في التقدم والتأقلم تصطدم بالإرهاق النفسي، والخوف من المستقبل يثقل كل خطوة. في هذه الظروف، تختلط مشاعر اليأس بالحنين إلى الحياة التي كانت ممكنة، بينما يبقى الأمل هشًا ومتقطعًا.

يلفت د. أدهم إلى أن هؤلاء المستفيدين غالبًا يصفون شعورهم بالإنهاك المستمر وفقدان المعنى، وكأن حياتهم كلها محكومة بخطر دائم لا يزول. هنا، يصبح العلاج النفسي رحلة بطيئة وصعبة لإعادة التقاط أجزاء الحياة المبعثرة، خطوة بخطوة، وسط ضباب من القلق والضغط المزمن، مع التركيز على استعادة شعور بسيط بالسيطرة والأمان في كل يوم جديد.

 

الاحتواء… كل ما نحتاج إليه

يقول د. المغربي إن الخطوة الأكثر تأثيرًا لإعادة بناء المجتمع السوري تبدأ بتوفير برامج دعم نفسي واجتماعي متواصل لكل فئة عمرية. الهدف ليس العلاج الفردي فقط، بل خلق مساحات آمنة للاعتراف والمشاركة، حيث يتحول الحديث إلى وسيلة لتخفيف العزلة وتعزيز المهارات الاجتماعية والثقة المتبادلة، ودمج الصحة النفسية مع التعليم والعمل والخدمات الاجتماعية.

ويلخص استشاري الطب النفسي الحالة النفسية العامة للسوريين اليوم بكلمة واحدة: الاحتواء. مشيرًا إلى أنها ليست مجرد وصف بل حالة مركبة تختصر الألم المتراكم والغضب المكبوت والصمود. الاحتواء يعني الإمساك بقطع الحياة المبعثرة، والوعي بالتهديد المستمر، وفي الوقت نفسه القدرة على الصمود والمضي قدمًا رغم قسوة الظروف اليومية.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث