أسبوع الفضاء العالمي 2025: تصوّرٍ للحياة خارج الأرض

نافع سعدالأحد 2025/10/12
رائد فضاء (غيتي)
شعار "ناسا" لن نعود إلى القمر لزيارته، بل للبقاء فيه (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

بين 4 و10 تشرين الأوّل من كل عام، يحيي العالم "أسبوع الفضاء العالمي"، الذي ترعاه الأمم المتحدة منذ عام 1999، لتسليط الضوء على الدور الذي تؤدّيه علوم الفضاء وتقنيات استكشافه في خدمة البشرية. وتأتي احتفالية هذا العام، بمشاركة أكثر من 90 دولة، تحت عنوان "العيش في الفضاء"، بكل ما يحمله هذا العنوان من تصوّرٍ للحياة خارج الأرض، وفهمٍ لما يقتضيه ذلك من علم وهندسة وإمكانات.

 

لبنان وسوريا والأردن، ومعظم الدول العربية من المغرب إلى عُمان، شاركت في هذا الحدث العالمي. وقد سجّلت الصفحة الرسمية لـ"أسبوع الفضاء العالمي" أكثر من 1500 فعالية على مستوى العالم. وفي لبنان، نظّمت المدارس نشاطات تنوعت بين الندوات، والعروض الترفيهية، ومعارض القبة السماوية (Planetarium exhibitions)، بالإضافة إلى تصاميم ورسومات قدّمها التلاميذ أنفسهم تُعبّر عن تصوّراتهم للعيش في الفضاء. ويمكن القول، بلا أدنى تردّد، إن الفضاء لم يفقد قدرته على أسر مخيّلة الأطفال، وتوسيع آفاقهم، وتقريبهم من العلوم، وتحفيزهم على الإبداع، مهما تعاقبت الأجيال.

 

عصر جديد من التعاون والمنافسة

لم يَعُد استكشاف الفضاء حكرًا على الحكومات؛ إذ نشهد اليوم شراكاتٍ متزايدة بين القطاعين العام والخاص في مشاريع تتنوّع بين الرحلات المأهولة والمهمّات العلمية.

لكن، وعلى الرغم من هذا التعاون، ما زلنا أمام فلسفتين متناقضتين، تلتقيان حين تفرض المصلحة المشتركة ذلك. الوكالات الحكومية مثل "ناسا" ما تزال تموّل المشاريع بعيدة المدى، تلك التي لا تدرّ أرباحًا فورية، لكنها أثبتت على مرّ السنين أن اكتشافاتها وإبداعاتها أسهمت بشكل كبير في خدمة البشرية، ودفع عجلة التقدّم التكنولوجي، مستندةً في ذلك إلى تراكم خبرات أجيال من العلماء والمهندسين. في المقابل، تتبنّى شركات مثل "سبيس إكس" و"بلو أوريجن" فلسفةً مغايرة، تقوم على مبدأ: "جرّب بسرعة، افشل بسرعة، وتعلّم أسرع".

 

هذا التحوّل الثقافي نحو الابتكار السريع أدّى إلى تسارعٍ مذهل في وتيرة التطوّر، رغم ما ينطوي عليه من مخاطر متزايدة. ومن أبرز قصص النجاح في هذا السياق، يبرز برنامج الطاقم التجاري التابع لوكالة "ناسا" (Commercial Crew Program - CCP)، الذي يعتمد على كبسولات "كرو دراغون" (Crew Dragon) المطوّرة من قِبل شركة "سبيس إكس" لإرسال روّاد الفضاء، بتكلفة تقلّ بنحو 40٪ مقارنةً بالرحلات السابقة التي كانت تُنفّذ على متن صواريخ "سويوز" الروسية.

غير أن الدافع لدى الشركات الخاصة يختلف جوهريًا؛ فهي مؤسسات ربحية في نهاية المطاف، حتى لو ظهرت بمظهر المُبتكر الطَموح الذي يسعى لتحويل المريخ إلى كوكب شبيه بالأرض.

 

سباق الفضاء الثاني

في الوقت نفسه، يشتدّ ما يُعرف بـ"سباق الفضاء الثاني" بين الولايات المتحدة والصين.
فقد أنجزت الصين محطّتها المدارية الخاصة، وأرسلت روبوتات إلى القمر والمريخ، وتخطّط لإنزال روّاد على سطح القمر في السنوات القليلة المقبلة.

هذا التنافس يُعيد أجواء ستينيات القرن الماضي، حين كان السباق محتدمًا بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، لكنه يتميّز اليوم بروحٍ أكثر تعاونًا. فالولايات المتحدة، عبر اتفاقيات "أرتميس"، تدعو إلى مبادئ موحّدة لاستكشاف القمر، بينما تناقش الصين وروسيا مشروع قاعدة قمرية مشتركة.

وقد يكون التوازن بين المنافسة والتعاون هو السمة الأبرز للحقبة الفضائية القادمة.

 

تقنيات تغيّر قواعد اللعبة

من أبرز التحوّلات التقنية في مجال الفضاء، تطوير الصواريخ القابلة لإعادة الاستخدام.
فبعد أن كانت الصواريخ تُستخدم مرة واحدة وتُتلف، باتت اليوم قادرة على الهبوط عموديًا وإعادة الإطلاق، كما هي الحال مع صواريخ Falcon 9 التابعة لشركة "سبيس إكس"، والتي أُعيد استخدامها حتى الآن أكثر من ثلاثين مرة، وفتحت المجال أمام ازدهار الرحلات التجارية والعلمية بوتيرة غير مسبوقة.

أما الخطوة التالية في مسار التطوير، فتتمثّل في ابتكار أنظمة دفع متقدّمة تتجاوز الوقود الكيميائي التقليدي.
تعمل "ناسا"، بالتعاون مع وزارة الطاقة الأميركية، على تطوير محركات نووية حرارية يمكن أن تقلّل زمن الرحلات إلى المريخ بنحو 25٪. كما يُجرى العمل على محركات شمسية–حرارية تعتمد على تركيز ضوء الشمس لتسخين الوقود، ما يمنحها أداءً مقاربًا للمحركات النووية، دون الحاجة إلى مفاعل. وحتى إن ظلّت مفاهيم مثل الدفع الكمّي أو المحرّك النبضي في نطاق الخيال العلمي حتى اليوم، فإن مجرّد دراستها يُعبّر عن اتساع أفق التفكير البشري في سُبل جديدة لعبور الفضاء.

 

تعكس هذه التقنيات المختلفة ما أشرنا إليه سابقًا من اختلافٍ جوهري في الفلسفة بين "سبيس إكس" و"ناسا". فنجاح صاروخ Falcon 9 جاء بعد سلسلة من التجارب الفاشلة، كان يُعقبها إيلون ماسك دائمًا بالقول: "لقد تعلّمنا شيئًا جديدًا". في المقابل، تعتمد "ناسا" في مشاريعها، مثل تطوير المحركات النووية الحرارية، على نهج بحثي طويل الأمد يستند إلى تراكم الخبرات والتجارب الدقيقة، وقد يحمل في طيّاته ثورة حقيقية في مجال السفر الفضائي إذا توفرت له الإمكانات اللازمة.

 

من القمر إلى المريخ: هل الاستيطان ممكن؟

تُشكّل بعثات "أرتميس" محور الاستراتيجية الأميركية الجديدة لاستيطان الفضاء.
فبعد نجاح الرحلة التجريبية غير المأهولة "أرتميس 1"، من المقرّر أن تنطلق "أرتميس 2" في نيسان 2026، حاملةً أربعة روّاد فضاء في مدار حول القمر. ويلي ذلك مهمة "أرتميس 3" في عام 2027، والتي ستشهد هبوط أول امرأة وأول شخص من أصول غير بيضاء على سطح القمر.

شعار "ناسا" واضح: "لن نعود إلى القمر لزيارته، بل للبقاء فيه". إذ تتطلّع الوكالة إلى إقامة معسكر دائم عند القطب الجنوبي للقمر، يضم مقصورات للمعيشة، ومركبات متجوّلة، وأنظمة طاقة نووية صغيرة لتوفير الكهرباء خلال ليالي القمر الطويلة.
ومن المتوقّع أن تكون هذه القاعدة بمثابة "معمل تدريبي" يُمكّن الروّاد من اكتساب الخبرة اللازمة قبل الانطلاق في مهمات أبعد، وعلى رأسها الوصول إلى الكوكب الأحمر.

 

أما المريخ، فيبقى الحلم الأكبر لـ"إيلون ماسك". لكنني أرى أن هذا الطموح لا يتعدّى كونه أطول حملة ترويجية متواصلة لصالح شركة "سبيس إكس".
فمن الطبيعي، إذا فكّر البشر يومًا بالسفر إلى كوكب آخر ضمن مجموعتنا الشمسية، أن يكون المريخ هو المرشّح الأول، إن لم يكن الوحيد. لكن لا بد هنا من التمييز بين أمرين: أن يكون استيطان الكوكب الأحمر نتيجةً طبيعية لتطوّر تقنيات السفر في الفضاء، أو أن يُفرض كهدف طموح مُعلَن، تُستنزف في سبيله الموارد والإمكانات، قبل أن تُذلّل فعليًا العقبات المرتبطة بالرحلة، والإقامة، والعودة.

 

تُظهر الدراسات أن المريخ يفتقر إلى كمية كافية من ثاني أكسيد الكربون لبناء غلاف جوي مستقرّ يحمي الحياة، ما يجعل فكرة "تهيئة الكوكب للسكن" (Terraforming) أقرب إلى الخيال العلمي منها إلى الواقع القريب.


لذلك، فإن البعثات المستقبلية ستعتمد على مساكن مغلقة وأنظمة دعم المعيشة، إضافةً إلى استخراج الموارد الأساسية كالماء والطاقة من البيئة المحلية، لا على تعديل مناخ الكوكب نفسه.

أضِف إلى ذلك صعوبة العودة إلى الأرض باستخدام أنظمة الدفع الحالية، إذ يُعدّ من المستحيل تقريبًا حمل كمية كافية من الوقود لتغطية رحلة الذهاب والعودة، إلى جانب الطاقم ومستلزماتهم من مقصورات العيش والطعام، ضمن مهمة واحدة.

 

تحديات العيش في الفضاء

العيش في الفضاء يعني مواجهة سلسلة من العقبات الجسدية والنفسية القاسية، تتطلّب حلولًا دقيقة تجمع بين العلم والتكنولوجيا وعلم النفس. ومن أبرز هذه التحديات:

 

- دعم الحياة: رغم أن محطة الفضاء الدولية قادرة على إعادة تدوير معظم الماء والأوكسجين، فإنها ما تزال تعتمد على إمدادات دورية من الأرض. وتسعى "ناسا" إلى تطوير أنظمة مغلقة بالكامل، قادرة على استعادة 100٪ من الموارد الحيوية، لتوفير الاكتفاء الذاتي في المهمات الطويلة إلى القمر أو المريخ.
 

- الإشعاع الكوني: خارج الحماية التي يوفّرها الغلاف المغناطيسي للأرض، يتعرّض الإنسان في الفضاء لجرعات عالية من الإشعاع. ففي المهمات طويلة الأمد كالسفر إلى المريخ، تصل الجرعة الممتصة إلى 400 ميليغراي (mGy)، وهي كمية قد تشكّل خطرًا على القلب والحمض النووي (DNA)، وتزيد من احتمالات الإصابة بالسرطان.
 

- انعدام الجاذبية: في بيئة ضعيفة الجاذبية، يفقد روّاد الفضاء بين 1 و1.5٪ من كثافة العظام شهريًا، كما تضعف عضلاتهم، وتحدث اختلالات في توزيع السوائل داخل الجسم وتؤثر على البصر ووظائف الأعضاء. تُستخدم تمارين مكثّفة يومية، ونُظم غذائية خاصة للحد من هذه التأثيرات، لكن التحدي لا يزال قائمًا في المهمات الأطول.
 

- العزلة والتأثيرات النفسية: تشكّل العزلة، والروتين اليومي، والمساحات الضيّقة، واضطرابات النوم، وتأخر الاتصال مع الأرض، تحديًا نفسيًا كبيرًا لا يقل صعوبة عن التحديات الفيزيائية. وللتخفيف من هذه الآثار، تُستخدم تقنيات مثل الإضاءة الذكية لمحاكاة ضوء الشمس، والأنشطة الجماعية الترفيهية، والواقع الافتراضي، لتعزيز الصحة النفسية والحفاظ على توازن الطاقم.

 

كل هذه التحديات تجعل من "العيش خارج الأرض" مشروعًا بيولوجيًا بقدر ما هو تكنولوجي. فالنجاح في استيطان الفضاء لا يتطلّب فقط مركبات وصواريخ متقدّمة، بل كذلك فهمًا عميقًا لطبيعة الإنسان، ومرونته الجسدية والنفسية في بيئة غريبة وغير مأهولة.

 

الإلهام: الوقود الحقيقي للرحلة

قد تكون الصواريخ والمحركات أدواتنا، لكن الإلهام الإنساني هو وقودنا الحقيقي.
فحين يرى الناس الفوائد الملموسة لعلوم الفضاء - في الاتصالات، وتوقعات الطقس، ومراقبة الكوارث الطبيعية - يدركون أن استكشاف الفضاء ليس ترفًا علميًا، بل خدمة مباشرة لحياة البشر اليومية.

وعندما يشاهدون صور المجرّات البعيدة من تلسكوب "جيمس ويب"، أو لحظة الهبوط التاريخي لمركبة "بيرسيفيرنس" (Perseverance) على سطح المريخ، يشتعل فيهم ذلك الفضول ذاته الذي حرّك أجيال "أبولو"، ويشعرون بأنهم جزء من الحلم الكوني نفسه.

لذلك أُنشئ "أسبوع الفضاء العالمي" في عام 1999، ليكون احتفالًا سنويًا يوحّد العالم حول هذا الطموح المشترك. وتُنظَّم خلاله آلاف الفعاليات في المدارس والمتاحف والمراصد، لشرح كيف يساهم الفضاء في رفاه الإنسان، ولإلهام الأجيال الجديدة على دراسة العلوم، والهندسة، والتكنولوجيا.

فالفضاء لم يَعُد حكرًا على العلماء أو وكالات الفضاء، بل أصبح ساحة أحلام عالمية.
ومع ازدياد الوعي العالمي بقضايا الاستدامة والتعاون الدولي، يمكن أن يتحوّل شعار "العيش في الفضاء" إلى واقعٍ مشترك، لا مجرّد مغامرات نخبوية لـ"جيف بيزوس" وأصدقائه.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث