قرى الجرد الغربي في البقاع: منسيّة.. إلا في الانتخابات

طارق الحجيريالأربعاء 2025/10/08
قرى الجرد الغربي في البقاع (طارق الحجيري)
الأنشطة الموسمية التي تقام في القرى غير كافية لمنع النزوح أو التشجيع على الاستقرار (طارق الحجيري)
حجم الخط
مشاركة عبر

تحت ظلال اللزّاب وفيء السنديان، تمتد قرى الجرد الغربي من البقاع الشمالي على السفوح والمرتفعات، كأنها معلّقة تائهة بين النفي والانتماء. حربتا، برقا، ريحا، الرام، نبحا، بشوات، القدَّام، قرحا وغيرها من القرى التي كانت تضجّ في الأيام الخوالي بالحياة والعمل الزراعي، وتطرب لنايات الرعاة، لكنها باتت اليوم أشبه بمناطق خاوية مهجورة، تتشارك الإهمال المزمن والنسيان، وتفترق بحدّة في الخيارات السياسية والطائفية.

في جولة "المدن" في منطقة الجرد الغربي، بدت الشوارع فارغة والبيوت أغلبها مقفلة. تسمع بين الحين والآخر أصوات بنادق الصيادين التي تكسر صمت المكان. أمّا أنين الفقر والأزمات الاقتصادية وغياب الدولة فيعلو في الأرجاء، ويبدو أثره واضحاً على من تبقى من السكان والمجتمع المحلي.

 

قرى بلا شباب

يعتبر رئيس بلدية حربتا، محمد المولى أن الواقع في بلدتهم وكل قرى الجرد الغربي "حزين ومأسوي". ويؤكد أن أغلب الشباب تركوا قراهم بحثًا عن العمل أو التعليم. نزحوا باتجاه الضاحية الجنوبية لبيروت، ومن بقي من السكان معظمهم من كبار السن. فالأراضي الزراعية لا تعطي ما يكفي للعيش والإعالة، والخدمات الأساسية شبه معدومة. 

البلديات تُركت وحيدة بلا إمكانات، والدولة غائبة كليًا. ويضيف المولى أنّ الاستهداف الكثيف الذي تعرضت له المنطقة خلال العدوان الإسرائيلي في الحرب الماضية زاد من حجم النزوح.

القرى المسيحية ليست أفضل حالاً. أجراسها تقرع كأنها كصلاة لدعوة السكان للعودة أو البقاء. مختار برقا سمير جعجع، يصف المشهد بحسرة: "عدد سكان القرية في السجلات 3500 نسمة، لكن أقل من ثلثهم متواجدين فيها. وللأسف البيوت تُقفل واحدًا تلو الآخر. لم نعد نسمع أصوات الأطفال وصراخهم في الأزقة. فبهدف العلم والعمل والحياة الأسهل، نزح أغلب الناس صوب كسروان وجونية والزلقا. ومن بقي هنا يتمسك بالأرض والعادات اللبنانية".

ويشير المختار إلى مفارقة صارخة. ففي الاستحقاقات الانتخابية تشهد القرية حضورا كثيفاً للسكان، متوقعًا أن تتجاوز نسبة المقترعين في الانتخابات النيابية المقبلة 70 بالمئة. 

قرى الجرد الغربي في البقاع الشمالي (طارق الحجيري)

صوت الغائبين.. حكايات الواقع

نزوح العديد من السكان من قراهم إلى المدينة وصل إلى حد القطيعة الكاملة مع منطقتهم ونسوا جذورهم، كما تؤكد الناشطة في المجتمع المدني شهيرة زعيتر من بلدة ريحا. فهي فضلت الإقامة في مدينة بعلبك، مشيرة إلى أنّها نادرًا ما تزور قريتها. آخر زيارة لها كانت في الانتخابات النيابية الماضية بهدف الاقتراع للائحة المجتمع المدني. وكانت الشخصية الوحيدة الذي اقترع في القرية من خارجها. وتقول: "ما يحصل ليس مجرد هجرة اقتصادية، بل تهميش كامل للجرد الغربي. النساء يعانين العزلة، والشباب فقدوا أي أمل في البقاء. نشعر كأننا على أطراف الوطن وربما خارجه. الولاء الحزبي يتقدم على كل شيء، وتصويت السكان في الانتخابات كان مئة بالمئة للثنائي الشيعي".

وتضيف زعيتر أن القرى ليست حجارة وبيوتًا فقط، بل بشراً وعلاقات وذاكرة جماعية، مشيرة إلى أن توفير مبادرات إنمائية بسيطة، مثل تحسين الطرقات، إنشاء مراكز صحية، ومدارس حديثة، قد يشجع الشباب على العودة تدريجيًا، لتستعيد القرى نبضها.

 

بذور أمل.. للريف

رغم الفراغ السكاني، لا تزال هناك مؤشرات لإبقاء شعلة للحياة ومد جسور التواصل بين المقيمين والنازحين. بعض المبادرات الفردية والجمعيات المحلية تُنظِم نشاطات ثقافية ورياضية، معارض مونة، سهرات وأعراس تراثية، بهدف الحفاظ على الروابط المجتمعية ومنع الانهيار الكامل.

لكن هذه الأنشطة موسمية وغير كافية لمنع النزوح أو التشجيع على الاستقرار في القرى. ويصفها رئيس بلدية الكْنَيسة خضر زعيتر بأنها أنشطة للحفاظ على "حبل السرة الذي يربط الناس بأرضها وخاصة الأطفال. نرى بهجتهم وفرحتهم بزيارة بلداتهم. لكن هذا يستوجب من الدولة إطلاق خطط تنمية فعلية تساعد الناس على البقاء في بيوتها، كي يبقى التوازن بين الريف والمدينة". وأكد زعيتر أن استمرار النزوح "يُؤدي إلى اندثار الزراعة وما تُوّفره من فرص عمل للمواطنين، ومن مواد أساسية في السلّة الغذائية الوطنية".

 

الفراغ الذي تعيشه هذه البلدات في الجرد الغربي ليس قدرًا محتومًا. هنا حيث تختلط الجغرافيا الصعبة بالإهمال الطويل، يكفي زرع بذور أملٍ صغيرة، عبر السياسات الحكومية، لتعيد الحياة إلى البيوت والشوارع والحقول. إما أن تُترك هذه القرى لتموت بصمت، أو أن تتحول إلى نموذج عن قدرة الريف اللبناني على النهوض من تحت الركام.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث