بلغت درجات الحرارة مستويات غير مسبوقة في عدد من الدول الأوروبية، إلا أن المخاطر الحقيقية تكمن في التحذيرات من تكرار هذا السيناريو في ظل التغير المناخي والارتفاع المتسارع في حرارة الأرض.
اللافت في موجات الحر الحالية لا يقتصر على تسجيل درجات حرارة عالية وغير مسبوقة، بل يشمل أيضاً المدة الزمنية الطويلة التي تستمر فيها هذه الموجات، واتساع الرقعة الجغرافية التي تغطيها. فقد امتدت موجات الحر، التي دفعت الدول الأوروبية إلى رفع مستويات التأهب إلى اللون الأحمر، لتشمل معظم الدول الأوروبية وصولاً إلى تركيا، التي تشهد حرائق هائلة وعمليات إخلاء لعشرات الآلاف من المواطنين. أما المدة الزمنية، فهي مستمرة بشكل متقطع منذ منتصف شهر حزيران، وهي ظاهرة تُسجّل للمرة الأولى بهذا النطاق.
فرض قيود على السكان
منذ منتصف حزيران، تتواصل موجات الحر التي بلغت ذروتها مع مطلع تموز. ففي البرتغال، سُجّلت درجات حرارة غير مسبوقة تجاوزت 46 درجة مئوية، بينما وصلت في فرنسا إلى أكثر من 40 درجة، ما استدعى رفع مستوى التأهب إلى اللون الأحمر في 16 مقاطعة. وتم تقييد حركة السكان والمركبات للحد من الانبعاثات الغازية، كما أقفلت السلطات نحو ألفي مدرسة يومي الإثنين والثلاثاء.
وشملت موجات الحر دولاً أخرى مثل إسبانيا، إيطاليا، ألمانيا، المملكة المتحدة، ألبانيا، بولندا، تشيكيا، وهولندا، حيث تراوحت درجات الحرارة بين 35 و42 درجة مئوية. ولجأت السلطات إلى فرض حظر على الأعمال الخارجية خلال فترات الذروة.
في ظل هذه الموجات، يُحذّر خبراء المناخ من تكرار هذه الظواهر مستقبلاً، ويعزون السبب إلى التغير المناخي الناجم عن الاحتباس الحراري. وكانت منظمة الأرصاد الجوية العالمية قد نبّهت منذ ثلاث سنوات إلى أن موجات الحر "أصبحت الوضع الطبيعي الجديد".
القبب الحرارية واحتباس الحرارة
ترافقت التحذيرات مع رصد ظاهرة "القبة الحرارية" (Heat Dome) منذ منتصف حزيران وحتى مطلع تموز. ورغم تسجيل هذه الظاهرة سابقاً في أميركا، إلا أنها لم تكن بهذه الشدة. ويُعرّف الخبراء القبة الحرارية بأنها نظام ضغط جوي مرتفع في طبقات الجو العليا يحبس الحرارة ويمنع التبريد، ما يؤدي إلى تراكم الحرارة في الطبقات السفلية.
تتشكّل هذه القبب عندما تنحصر كتلة كبيرة من الهواء الساخن تحت منطقة ضغط مرتفع، فتتشكل "قُبّة" من الهواء الدافئ تحتجز الحرارة ولا تسمح بمرور التيارات الباردة أو الغيوم. ونتيجة لذلك، تزداد درجات الحرارة يوماً بعد يوم، مع غياب التبريد الطبيعي.
تؤدي هذه الظاهرة إلى موجات حر طويلة الأمد، قد تستمر لأيام أو حتى أسابيع. ويُرجّح الخبراء أن التغير المناخي يزيد من وتيرة تشكلها ومدتها ونطاقها الجغرافي. فبينما كانت نادرة في السابق، يُتوقّع أن تصبح أكثر شيوعاً وحدّة في المستقبل.
انبعاث الغازات والتأثير المناخي
تؤدي هذه القبب الحرارية إلى جفاف التربة وتلوث الهواء، مما يُساهم أيضاً في زيادة درجات حرارة الأرض.
وقد ارتفع متوسط درجات الحرارة العالمية من 1.1 إلى 1.3 درجة مئوية منذ أواخر القرن التاسع عشر، وهو في ارتفاع مستمر نتيجة زيادة انبعاث الغازات الدفيئة (Greenhouse Gases) في الغلاف الجوي، الناتجة عن النشاط البشري.
وتشمل هذه الغازات: ثاني أكسيد الكربون، الناتج عن احتراق الوقود الأحفوري في الصناعة، والنقل، وتوليد الطاقة،، الميثان، الناتج عن النشاط الزراعي ومكبّات النفايات، أكسيد النيتروز، الناتج عن استخدام الأسمدة الصناعية إلى جانب الغازات الصناعية الأخرى. وتعمل هذه الغازات على احتباس الحرارة في الغلاف الجوي، مما يُسهم في تفاقم ظاهرة الاحترار العالمي وارتفاع درجة حرارة الأرض.
وتعليقًا على موجات الحر الحالية، حذّر الخبراء من احتمالية تكرارها بشكل متزايد.
ووفقًا لدراسات منظمة الأرصاد الجوية العالمية (WMO)، فإن موجات الحر القاسية أصبحت تُشكّل "الوضع الطبيعي الجديد". وتُشير التقديرات إلى أن هذه الظواهر ستزداد تكرارًا وشدةً نتيجة التغير المناخي العالمي.
وثمة تحذيرات من أن احتمالية حدوث هذه الموجات الحرارية أصبحت أعلى بنحو عشرة أضعاف، أو أكثر، مقارنة بفترات سابقة لم تكن متأثرة بالتغير المناخي. وترافق هذه الموجات تداعيات طويلة الأمد، أبرزها ذوبان الثلوج والأنهار الجليدية في جبال الألب، مع تسجيل ارتفاع في خط الصفر المئوي إلى أكثر من 5,100 متر. كما تسجّل حالات جفاف متزايدة، خاصة خلال فصول الربيع، ما يُسهم في تفاقم درجات الحرارة.
وقد صدرت توصيات بضرورة تسريع الانتقال نحو صافي انبعاثات صفريّة، وتبنّي تدابير تكيّفية مثل تبريد المدن، وإنشاء ملاجئ حرارية عامة، وتعزيز التوعية بمخاطر الحرارة.