بعد 18 عامًا، تحولت العديد من المدارس في لبنان، مرة جديدة، إلى مراكز إيواء للنازحين الفارين من القصف الإسرائيلي الكثيف الذي استهدف عدة مناطق، لا سيما في جنوب لبنان. قصد الجنوبيون مناطق كثيرة من بيروت إلى الشمال، فيما اختار قسم آخر مناطق جنوبية تُعتبر "آمنة" نسبيًا مثل جزين، تبقيهم على مسافة أقرب من بيوتهم وأرزاقهم و...الذكريات.
جالت "المدن" على بعض مراكز الإيواء واستمعت إلى معاناة الناس وقصصهم .
نزوح وألم
قبل نحو أسبوع قتل العدوان جوري، الصغيرة التي لم تتجاوز السبع سنوات، حين كانت تلعب أمام منزل جدتها. استودع محمد فلّاح ابنته تراب بلدته السكسكية، ونزح مع عائلته إلى جزين. محمد الذي بُترت يده خلال حرب تموز يقول لـ"المدن" بصوت مملوء بالغصة: "قلبي محروق، وعبء كبير يربض على صدري. شيّعت ابنتي وغادرت منزلي من دون أن أعرف إلى أين سأذهب. أتمنى ألا يلحقنا شيء هنا أيضًا".
إلى جانبه تلعب ابنته الصغيرة نور، البالغة من العمر 4 سنوات. لم تستوعب بعد غياب جوري. تناديها باستمرار وتسال عنها ولا تستوعب بعد فكرة أنها لن تلعب مع أختها مجدداً.
يتشارك هادي قصة النزوح مع الآف العائلات. غادر مع عائلته وأحفاده من بلدة سجد في قضاء جزين إلى بلدة بنواتي، التي تقع أيضًا في قضاء جزين، لكنها تُعتبر "آمنة" نسبيًا. يقول هادي: "توجهنا إلى جزين لأننا لا نريد الابتعاد عن الجنوب وبيوتنا." ويضيف: "نشعر بالراحة هنا، لكن بالطبع لا يرتاح المرء سوى في بيته. ولكن عندما يصبح البيت غير آمن، فإن أي مكان آخر يكون أفضل".
تتحدث بنات هادي عن المساعدة التي تلقوها قائلين: "قدمت لنا البلدية كل شيء، من فرش، وأكل، وحتى الاحتياجات الأساسية الأخرى. وأهل البلدة وقفوا إلى جانبنا بطريقة لم نتوقعها، مما جعلنا نشعر كأننا بين أصدقاء وليس فقط غرباء في مكان جديد".
لكنهم يعبرون عن معاناتهم لعدم قدرتهم على متابعة التطورات: "لا نعلم ما يحدث في الخارج. لا إنترنت لدينا ولا تلفزيون لمتابعة الأخبار، نعيش في حالة من الانقطاع التام عن العالم. المعلومات الوحيدة التي نحصل عليها تأتي من الأشخاص الذين تعرفنا عليهم هنا في البلدة، والذين يزوروننا من وقت لآخر وينقلون لنا ما يعرفونه."
أما علي، من الصرفند، الذي جاب لبنان بحثًا عن منزل للإيجار، فيقول لـ "المدن": "لم نجد سعر إيجار مقبول بسهولة، إلى أن الله سهلها وتمكنا من تدبير هذا المنزل في ضهور بكاسين".
يعبر علي بحسرة عن وضعه قائلاً: "تركنا أرزاقنا، بيتنا، ومحلاتنا. من الغد، سنضطر للعودة إلى الصرفند لفتح محل السوبرماركت والعمل، كي نستطيع دفع الإيجار هنا."
وعند سؤاله عن أوضاع الناس في الصرفند، أشار إلى أن "أعداداً قليلة جدًا ما زالت موجودة. لكن هناك من لا يملكون مكانًا آخر يذهب إليه، ولا قدرة لديهم للمغادرة، لذا يبقون رغم كل المخاطر."
البلدية مجهزة ومبادرات فردية
أكثر من 1600 عائلة نازحة توزعت في قضاء جزين، قادمة من مختلف المناطق، حيث شكلت النبطية، بنت جبيل، قرى جبل الريحان وإقليم التفاح أبرز مصادر النزوح. في حديث مع رئيس اتحاد بلديات جزين، خليل حرفوش، أكد أن "خلية الأزمة كانت جاهزة، من تنظيم وفريق عمل، ومنذ يوم الإثنين تم تفعيل الإجراءات بسلاسة، وكأننا ضغطنا على زر واحد لتشغيل كل شيء."
وأشار حرفوش إلى أن المساعدات اليوم أقل بكثير مقارنة بالماضي، معبراً عن مخاوفه مع اقتراب موسم الشتاء، حيث قال: "هناك مراكز إيواء مجهزة بالتدفئة، لكن لا قدرة على تأمين المازوت."
وعن المساعدات، أوضح حرفوش: "نؤمن اليوم الحصص الغذائية وكل المستلزمات التي تحتاجها العائلات، لكن نسعى إلى تنظيم الوضع بحيث يصبح كل مركز إيواء أو مدرسة مسؤولًا عن إعداد طعامه الخاص، مع وجودنا الدائم بجانبهم".
أما بخصوص الإيجارات، جزم خليل حرفوش أن هناك بعض الحالات الاستثنائية التي شهدت ارتفاعًا في الأسعار، لكنها قليلة، موضحًا أن الإيجارات بشكل عام بقيت على حالها، بل إن بعض السكان قدموا منازلهم مجانًا للنازحين. ويعتبر حرفوش أن "جزين بيضتها".
في السياق نفسه، ظهرت مبادرات فردية مميزة من شباب البلدات الجزينية، حيث قام العديد منهم بتقديم الدعم للنازحين بطرق متنوعة. بعض الشباب قدموا الملابس والبطانيات، بينما عرض آخرون، ممن يمتلكون محلات تجارية أو مطاعم، مساعدات غذائية، ومستلزمات أخرى.
خلال جولتنا مع هؤلاء المتطوعين، تكررت على لسان الجميع عبارة "نحن لبعضنا". كما أشاروا إلى أن الروح الإنسانية تغلب على كل شيء، وأن قيم الكرم والمساعدة هي التي تحركهم لتقديم الدعم للنازحين. كانت هذه الكلمات تعبيرًا عن التزامهم بالمساهمة في تخفيف معاناة الآخرين، مؤكدين أن العمل الجماعي والمساندة المتبادلة في أوقات الأزمات يعكسان قوة الروابط الإنسانية التي تجمعنا كلبنانيين.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها