عند مستديرة سراي صيدا الحكومي (العربي)، يصطف عشرات المواطنين المنتظرين لأقاربهم وأصدقائهم النازحين مع عائلاتهم من البلدات الجنوبية، راجين السلامة من آلة الحرب الإسرائيلية التي تمعن قتلاً وتدميراً وتهجيراً.
الوقت يمضي متثاقلاً كما بطء دوران عجلات أرتال السيارات المتكدسة على طول الأوتوستراد الجنوبي نحو صيدا وما بعدها، طلبا للنجاة من الغارات الجوية التي رافقتهم بمجازرها وتدميرها حتى تخوم المدينة.
ساعات الرعب
خرجوا خفافاً إلا من بعض متاع تأبطوه على عجل، وجهتهم حيث الأمان الذي فقدوه في لحظات رعب عاشوها مع أطفالهم، وكادت تلحقهم بقائمة الشهداء أو الجرحى.. لكنهم حملوا مع كل ذلك، ما يثقل الجبال، هماً وحزناً وحسرة على فقد قريب أو عزيز سلم الروح أمام أعينهم بمقصلة النار الإسرائيلية التي سوت البيوت بالأرض، والأجساد بالركام.
وصل بعضهم إلى صيدا، المدينة التي شرعت قلوبها وبيوتها ومدارسها ومراكزها الرسمية والبلدية لآلاف العائلات النازحة، فيما تابع آخرون وجهتهم إلى مناطق أخرى يبحثون عن فسحة أمان يلقون فيها أجسادهم المنكهة وأنفسهم المكدودة من هول ما كابدوه من خوف وويلات وساعات الرعب، انتظاراً داخل سياراتهم على طرقات الخروج من جحيم الغارات والقتل المتنقل، يقطف زهرات ومواسم وجنى العمر في موسم قطاف زيتون الأرض، فإذا بحباته تقطر بدل الزيت دماً يملأ خوابي الذاكرة، ويلطخ وجه وجبين إنسانية تغتالها إسرائيل كل لحظة وساعة ويوم في غزة فلسطين وجنوب لبنان وبقاعه.
في اليوم الثاني للحرب الإسرائيلية على لبنان، تدحرجت كرة النزوح من مختلف مناطق الجنوب إلى صيدا ومنها إلى العاصمة ومناطق أخرى.
أكثر من عشرة آلاف نازح وصلوا حتى الآن إلى صيدا وبقوا فيها -في حركة نزوح لم يشهدها الجنوب منذ عدوان تموز من العام 2006 - توزعوا على مراكز الإيواء أو على شقق سكنية مستأجرة أو عند أقارب وأصدقاء. وكان عدد كبير من العائلات أمضوا ليلتهم في سياراتهم أو في الساحات العامة أو على الكورنيش البحري، وسط زحمة خانقة شهدتها جميع شوارع وساحات المدينة، بالرغم من الإجراءات والتدابير الأمنية التي اتخذت.
استنفار المؤسسات
صحيح أن صيدا على الأقل حتى الآن لم تشملها الغارات الحربية الإسرائيلية، التي تركزت عند تخومها في درب السيم والغازية ومغدوشة، وفي شرق صيدا وإقليم التفاح، إلا أنها تلقت الصدمة الأولى للحرب الإسرائيلية على الجنوب، سواء من حيث حجم وضغط النزوح إليها، أو من حيث تأثر مختلف مرافق الحياة والقطاعات فيها وتوقف الدراسة في مؤسساتها التربوية الرسمية والخاصة، وتبدل نمط الحياة اليومية الهادئ فيها إلى حراك متسارع وحالة طوارئ معلنة، واستنفار لكل مؤسساتها الرسمية والبلدية وأجهزتها الأمنية والعسكرية وهيئاتها وجمعياتها الأهلية، لمواكبة واستيعاب حركة النزوح.
ارتفاع أعداد النازحين بشكل متسارع أضعاف ما كان عليه في اليوم الأول، استدعى اتخاذ قرار سريع من محافظ لبنان الجنوبي منصور ضو، وبصفته رئيساً للجنة الوطنية لتنسيق عمليات مواجهة الكوارث والأزمات في المحافظة، ومن بلدية صيدا برئاسة الدكتور حازم بديع، وخلية إدارة الحد من مخاطر الكوارث فيها، بالتنسيق والتعاون مع مختلف مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية في المدينة. وذلك تحت اشراف مباشر من غرفتي العمليات المفعّلتين في المحافظة والبلدية، رفع عدد مراكز الإيواء في المدينة من 4 إلى 16 دفعة واحدة.
وفي اليوم الثاني للعدوان، ونتيجة حجم النزوح الذي ضخه في المدينة، بدت شوارعها دائمة الازدحام سواء بالسيارات أو حتى بالمارة أو العائلات التي لم تجد بعد ملاذاً تأوي إليه، فألقت بهمومها ومتاعها إلى رصيف أو وسطية طريق أو مدخل مرفق رسمي أو بلدي، بانتظار تأمين مكان تقيم فيه.
نقص كبير
وانعكس هذا الزحف البشري إلى المدينة وضواحيها، تهافتاً وتزاحماً على تأمين الخدمات والاحتياجات الأساسية، ولا سيما الخبز والمواد الغذائية والمحروقات، حيث تجد الأفران المنتشرة في صيدا والمحيط القريب صعوبة في استيعاب حجم وكمية الطلب على الرغيف، نظراً لعدم كفاية كميات الطحين التي تسلم لها في الأيام العادية، فما الحال في ظل هذه الظروف الإستثنائية! وشهدت محطات الوقود طوابير طويلة من السيارات.
في وقت بدأت الصرخات تعلو من البلدية والجمعيات الأهلية والإغاثية تشكو من نقص كبير في الحاجات الأساسية.
وعلى صعيد الحراك السياسي والرسمي والبلدي المواكب لتطورات الجنوب ولمسار استقبال النازحين وتأمين احتياجاتهم، عقد بدعوة من النائب أسامة سعد، في منزله اجتماع لفاعليات المدينة، صدر على إثره بيان أدانوا فيه العدوان الإسرائيلي المتمادي على الشعبين اللبناني والفلسطيني، وحثوا المجتمع الدولي على بذل كل الجهود الدبلوماسية والسياسية لوقف العدوان وإدانة العدو الاسرائيلي على جرائمه. وبحسب البيان، شدد المجتمعون على "أهمية تأمين كل الشروط والمستلزمات الضرورية لاستقبال الوافدين إلى صيدا ومنطقتها من اخوتنا وأهلنا في الجنوب والتعاون لتوفير المتطلبات الحياتية والصحية الضرورية لهم، مطالبين الدولة وأجهزتها كافة على العمل لسد الاحتياجات الضرورية المطلوبة للايواء وتأمين الطرقات لتسهيل عمل الطواقم الطبية وتنقّل المواطنين".
ونوه المجتمعون بدور وجهود الجمعيات الأهلية والمدنية التي سارعت للاستجابة الطوعية لنداء الواجب، واضعة كل امكانياتها في خدمة أهلنا النازحين. كما وأكدوا على روح التكافل والتضامن التي يتحلى بها اللبنانيون في شتى الظروف والأوضاع.
المحافظة والبلديات
وتابع المحافظ منصور ضو من مكتبه في سراي صيدا الحكومي -حيث بات ليلته- تطورات العدوان الإسرائيلي وتداعياته المباشرة، غارات وقصفاً ودماراً وشهداء وجرحى ونزوحاً، وهو عقد سلسلة اجتماعات تنسيقية مع مختلف الجهات المعنية، خصصت لوضع خطط استيعاب حركة النزوح، وبقي على تواصل دائم على مدار الساعة واليوم مع كافة الإدارات والأجهزة المختصة الرسمية والادارية والبلدية والاغاثية، مستنفراً غرفة عمليات وحدة إدارة الحد من مخاطر الكوارث والأزمات في المحافظة، ومبقياً إياها بحالة انعقاد دائم، لمواكبة كل جديد.
وخلال جولة ميدانية قام بها على بعض مراكز الإيواء في المدينة، أعلن رئيس بلدية صيدا حازم بديع، أن عدد النازحين الذين استضافتهم صيدا وباتوا ليلتهم فيها وحتى الساعات الأولى من فجر اليوم، وصل إلى نحو 10 آلاف منهم 6 آلاف استقروا في مراكز الإيواء التي تم فتحها لاستقبالهم، والتي ارتفع عددها إلى نحو 16 مدرسة، داعياً الهيئات والمنظمات الدولية لمد يد المساعدة بشكل عاجل وتأمين المستلزمات الضرورية للنازحين في المدينة، ولا سيما وأن عدداً من المدارس يحتاج لصيانة وتأمين مياه الشفة والكهرباء وغيرها من الأمور الضرورية. وأشار إلى أن ازدحام السير جراء قوافل النازحين الكثيفة من الجنوب باتجاه الشمال، أدى إلى تأخر وصول الإحتياجات الضرورية والمساعدات للنازحين، ولا سيما الفرش ومواد التنظيف والطعام. وقال: وبالرغم من ذلك قمنا بتأمين أعداد من الفرش والبطانيات والطعام. شاكراً كل الجمعيات والأفراد الذين بادروا لتأمين الطعام والمياه ومد يد العون للنازحين.
وعممت بلدية صيدا أرقاماً للخط الساخن للتواصل مع غرفة عمليات البلدية المشتركة المتعلقة بموضوع النازحين واستقبالهم وهو: 07724805 أو 07724806.
وأعلن رئيس بلدية بقسطا إبراهيم مزهر عن خطة طوارىء تنفذها البلدية من خلال خلية أزمة، لمتابعة أمور النازحين، حيث يتم تسجيل أسمائهم لمساعدتهم من خلال الجمعيات والجهات المانحة. وأشار إلى أن البلدية وضعت كل إمكانياتها في سبيل مساعدة أهلنا في الجنوب ودعم صمودهم. وأُعلن عن رقم ساخن لخلية الأزمة هو: 71582397 حيث يمكن للمواطنين التواصل من خلاله للاستفسار عن المساعدات أو الشقق المتوفرة في المنطقة لاستقبال النازحين.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها