هكذا تستقبلني دمشق الحرّة، بخفة النكتة وحفنة من الليرات السّوريّة المُطبوعة في عهد النظام البائد، وابتسامة.
في أحياء باب توما، شيءٌ شديد الحميميّة، شديد اللطف، شديد السّوريّة. العمارة بمختلف أشكالها وأنواعها وفلسفاتها وحقباتها منتشرةٌ في كل مكان، وأمام العين الّتي تقدر على البصر. وربما هناك تدبيرٌ أهليّ للمحافظة على نظافة الشوارع والمباني، بدليل نظافة الحارات الّتي تُعج حدّ الاختناق بالزوار والمتبضعين والدكاكين والأكشاك الّتي تعرض شتّى البضائع من الأعلام الخضراء وعلاقات المفاتيح والملابس.. إلى اللحوم والخضروات وأطباق الفول والحمص والفتة، وصولًا إلى لذيذ الحلويات والوجبات الخفيفة من البوراك التركيّ والتحليّة الإدلبيّة والشرقيّة واليالنجي (ورق العنب) بالكرز والرمان والمعجنات على أنواعها.
الفيض الشميّ اللامتناهي من روائح الأجساد والمأكولات والعطور والتراب والنارنج ومشاهدات العمارات البهيّة، أديا بي في تلك اللحظة، وأنا أتمشى في الحارات الضيقة الّتي تشبه متاهات حضريّة مأهولة، لأن أكون سائحةً في مدينةٍ تعنيني وأتصل بها تاريخيًّا، من عينٍ وأنفٍ محض. وحملتني للتذكر أن المدن ليست مشيدةً بالحجارة والخشب والحديد، بل هي مُشيدةٌ بالدمّ والأحلام والروائح.
دمشق: زهرة العسل
المهم. جميلةٌ هي دمشق، صندوق "فرجةٍ" كريم الألوان والروائح والخيالات والتاريخ. صندوق "فرجةٍ" يفتح صدره للمشتاقين. جميلةٌ وكأن الربيع (وفي عزّ الشتاء) قد حلّ لتوه. حلّ نضرًا، منعشًا، مخضوضرًا. ولمّا كانت دمشق مدينةٌ مثل زهرة العسل، فقد راحت وبعد التحرير الكبير تجذب إليها البشر من مختلف الأنواع من قريب ومن بعيد، فيهم المُهجّر والباحث والمشتاق. أعداد الناس كثيرة جدًا تحت سماء واحدة. سماء دمشق، من يُصدق؟
أتجول في ساحة العباسيين ثمّ ساحة الأمويين، ثمّ سوق الحميديّة، سيرًا على الأقدام، محاولةً رسم خريطةٍ في ذهني (وعلى دفتري)، لأعود إلى دمشق وأمشي في حاراتها كما أهلها، من دون إلتباس أو أسئلة السّائحين البلهاء.
ومن باب توما ، اتجه نحو الجامع الأمويّ الكبير، وكنت عقدت العزم منذ سنواتٍ وفي حال تحقّق طموحي وتمكني من زيارة دمشق الحرّة، لا دمشق الأسد، أن أزور الجامع الأمويّ، أنا صاحبة الرأس المتوهج بالقلق واللايقين، أن أُصلي في الجامع الأمويّ الكبير، بلا وضوءٍ ولا ذاكرةٍ واضحة لمضمون الصلاة. أخطو من فوق العتبة، مذهولة، مبهوتةً بالقبة المشيّدة على أعمدة المسجد الشهير، الذي علمت لاحقًا أن الزخارف البديعة المنقوشة على جدرانه، هي تصورات الأمويين للجنّة الّتي وصلوا إليها بوصولهم دمشق. اضطجع على السّجادة القرمزيّة، باسطةً ساقيّ وكأني وحيدةً في هذا المسجد، نقطةً في ذلك المدى الواسع.
أُنهي صلاتي، الّتي لم تكن حتمًا صلاةً حقيقية، وأخرج إلى السّاحة المتراميّة. الآلاف من الزوار والمُصلين متجمهرين وسط السّاحة، وكأنما هناك عيد وطنيّ، وهو بالفعل عيدٌ وطنيٌّ شعبيٌّ، كأن الشعب السّوريّ انبثق من غيبوبةٍ طويلة واندفع نحو الشوارع محتفلًا بـ"العودة" إلى أرض العودة.
وسط ساحة الجامع الأمويِّ الكبير، يَدوي صوتُ رصاصٍ مباغتٍ، شاقًّا ضوضاء السّوق المُقابل المزدَحم بالزُّوّار والسّابِلة والمتسوّقين. تَمتلئ السّماء بالحَمامِ الأبيض المذعور، وتَموج فوق رؤوسنا أَفواج الحَمام. هي لحظةٌ لا تَطول. أسمع فتاة كالمَسحورةِ تَصرُخُ بملء حنجرتها بغبطةٍ وبِلكنةٍ حَلَبِيَّةٍ: "هذه الشام، هذه الشام يا جماعة! والله اشتقنا". وهنا وقفتُ بجانبها، وسط ساحة الجامع الأمويِّ الكبير، وتحت قُبَّة سماء دمشق البهيّة، وفي قلبي امتنانٌ يتعذَّرُ الإفصاحُ عنه. أجدني أقولُ في سرّي: "إليكِ يا دمشقُ، يا زهرةَ العسل، يمضي المشتاقون".
ساعة واحدة
تُبدّد ذهولي خاطرةٌ حزينة "باقٍ ساعةٌ واحدةٌ للعودة إلى بيروت". ربّما ساعةٌ وربعٌ، لستُ أدري. أبقى واقفةً في ساحةِ الجامعِ الأمويّ، متضرِّعةً أن أذوبَ في بحر الأجساد المتدافعة وأبقى هنا. باقٍ ساعةٌ واحدةٌ لأعودَ فيها إلى حياتي. لكن لا بأس. الآنَ وقت دمشق، لن أفكِّرَ في مدنٍ أُخرى أو حيواتٍ أُخرى. ثمّ إنني أخيرًا هنا، ولن أحاول التحايُل على الزمن الخطيّ. أقفُ فقط، وهذا ما يهمّ. الزمان توقف عندها، وبدا لي أنني اقتربت، ومن دون أن أدري، خطوة واحدة من "الجنة".
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها