الجمعة 2024/11/29

آخر تحديث: 15:56 (بيروت)

الوصول إلى الجنوب الذي يبكي

الجمعة 2024/11/29
الوصول إلى الجنوب الذي يبكي
سيارات معبأة بالحزن والأطفال والوجوم (علي علوش)
increase حجم الخط decrease
قبل ليلة واحدة اشتعلت الضاحية الجنوبية وبعض أحياء بيروت بإطلاق الرصاص في الهواء على نحو هستيري متواصل لساعات طويلة. كثافة إطلاق النار لم يكن إيقاعها احتفالياً بالمرة. كان أشبه بصرخات ونحيب مخيف، بكاء ناري جماعي، طقس عزاء معدني ومتفجّر. غضب مفزع مشحون بسخط وانكسار في آن معاً.

ذكرني هذا بيوم خروج منظمة التحرير من بيروت: آلاف فوهات البنادق امتشقت صوب السماء: رصاص غزير كعويل أسطوري في وداع المقاتلين وياسر عرفات، وداع واحدة من أقسى حقبات التاريخ الفلسطيني-اللبناني- العربي. وداع كفاح مسلح وحقبة وأيديولوجيات وأحلام. كانت بيروت المدمرة تبكي وتصرخ ولا تبتلع الهزيمة.

الفجر والموعد الثالث
مضت 48 ساعة على إعلان الهدنة. ولا بد من الجنوب.

أستعيد الموعد الأول المهيب فجر 25 أيار 2000، والزحف البشري العاطفي نحو قرى الشريط الحدودي: شعب يعانق أرضه بحرارة الشوق والتحرر ونهاية كابوس الاحتلال.

أستعيد الموعد الثاني المأسوي والكرنفالي في 15 آب 2006، وجحافل العودة المظفرة ورايات الانتصار وصور مئات الشهداء والخراب العميم، وآلة الحشد الحزبي الهائلة التي تنظم التعابير والوجوه والكلمات والمشاعر.

وها نحن في الموعد الثالث مع التراجيديا الجنوبية، 28 تشرين الثاني 2024، ننطلق فجراً بحذر ولا دراية إلى أين يمكن أن نصل. تسونامي السيارات التي تنبع من كل اتجاهات بيروت والشمال والضاحية وتصب على الأوتوستراد الساحلي نحو صيدا، يبدأ بالتشكل. دفق متواصل من الموج المعدني يحمل مئات آلاف البشر، المستعجلين لسلخ صفة "النازح" عن جلدهم والعودة إلى قراهم وبلداتهم.

صمت وحسب. صمت ولا أي تعبير على وجوه الركاب العابرين. شيء ما تغير عن مسيرتي عام 2000 وعام 2006. لا تعبير. سكون الملامح يشي بالحزن أو المرارة. وتلك السيارات التي تجذب المصورين لأنها تلصق صور حسن نصرالله أو ترفع راية حزب الله، كانت نادرة وقليلة على نحو غير مشهود من قبل. بل هي تكاد تكون نافرة، غريبة وربما مفتعلة. وبالتأكيد "منعزلة". وامتحنت هذه الملاحظة طوال الطريق من خلدة إلى النبطية.

وحدهم...
ساعتان من الازدحام الصامت، حيث النظرات المتبادلة ما بين العابرين بلا أي إيحاءات. كتم وكبت لما يعتمل. لكن بالتأكيد ثمة تواطؤ على عدم المكابرة. إنه نهر من الصمت وفرش الاسفنج والحاجيات المحشوة بها تلك السيارات، كعلامات دامغة للنازحين العائدين. هذه المرة، عائدون وحدهم بلا أي مواكبة مهرجانية حزبية. وحدهم كأهل وشعب وعائلات يتوقون إلى قراهم وبلداتهم وبيوتهم وحسب.

عند بوابة الجنوب، صيدا، تظهر الدولة كمعجزة صغيرة. ضباط الشرطة ودورياتها التي تنظم السيّر وتسهله عند التقاطعات. ولا أحد يشاكس. كأن فجأة ثمة رغبة بالنظام طالما أن هذه القوافل التي لا تنتهي كانت تمضي بلا أي مشهدية احتفالية أو صخب. سيارات معبأة بالحزن والأطفال والوجوم.

من أول بلدة الغازية نبدأ بمشاهدة "التطريز" التدميري على طول الطريق. بصمات موزعة كبقع سوداء ورمادية، كلوحة جهنمية على سطح العمران الجنوبي. الزهراني، المصيلح، إلى دير الزهراني. يلتفت زميلي علي ويقول: هذا الركام هو بيت أختي. قالها بلا انفعالات زائدة. كل شيء مقفل. المشاة القلائل كأنهم لا يريدون أن يشاهدهم أحد. قرى شبه خالية في سبات. لا أحد خرج ليستقبل العائدين، أو ليرحب بالسيارات العابرة. بالكاد صدقوا أنهم ناجون. هذا أيضاً مختلف جذرياً عن مشهدي عامي 2000 و2006.

كفر رمان وستالينغراد
على الطريق تصلنا الإنذارات الإسرائيلية الجديدة والمرفقة بخريطة عدوانية، ملوِّنة بالأحمر شريطاً حدودياً عريضاً يحظر دخوله أو اجتيازه يمتد من شبعا وحتى يحمر الشقيف فشقرا وياطر وصولاً إلى المنصوري والبياضة. لن نستطيع زيارة مرجعيون وبنت جبيل. خريطة لاحتلال بالنار وإن لم تنتشر فيها بالكامل دبابات أو جنود العدو. خريطة تقول بوقاحة فحوى هذه "الهدنة" ونتائجها.

الاقتراب من كفر رمان أشعرنا إننا ندخل حقاً إلى أرض المعركة، إلى حيث كانت الحرب تعربد بكل عنفها. طرقات موحلة وفتات أحجار متطايرة وأسلاك فالتة متدلية وغبار انفجارات وأغصان مكسّرة. سيارات تسير على مهل وتحيات خافتة متبادلة بين الواقفين والعابرين. نصطف إلى جانب محلات خسرت بعض أبوابها أو زجاجها وجلس أمامها رجال البلدة. لم يسألوا من نحن. نتصافح مع عبارة "حمدالله ع السلامة". واحدهم شيوعي قديم في هذه البلدة التي كانت تُعرف في عصر اليسار الذهبي بـ"كفر موسكو". كانت كلماته تتدفق بهدوء وبلا حاجة للسؤال: خمسون وحدة سكنية جرى تدميرها. استُهدفت إما لأن أصحابها معروفون بانتمائهم لحزب الله، أو أن راجمة كانت مركونة بجانبها، أو لجأ إليها المقاتلون. يقفز بكلامه فجأة ويقول: "لا مشكلة.. إنه صراع حضاري. القوة الآن في النفوس وتنتظر. ما جرى أشبه بغبار هطل على كتفيك". يرفع يده فعلاً وينفض كتفه. ثم يسأل ببلاغة: "هل تتذكرون ستالينغراد؟ هناك كان الدمار الحقيقي". كأنه يريد التأكيد أن ما حدث يمكن تحمله والتغلب عليه بقوة الإرادة. نسأل عن الهزيمة والانتصار وعن غياب نصرالله وما أصاب حزب الله، فيقول بثقة أو بنبرة أدبية: "التاريخ ولّاد".

الآخرون لم يكترثوا للحديث، يتبادلون معلومات عن بعض العائلات والأقارب. عن انعدام الكهرباء والماء وسوء الإنترنت. ربما لأول مرة منذ عقود، يبدو كلامهم خالياً من الشعارات، طبيعي وهادئ وفردي ولا يخلو من حزن. لا مقهى مفتوحاً ولا فرن. محلات ومتاجر بلا أبواب، والبضائع فيها مكدسة ومكشوفة، ولا أحد لمس أو أخذ منها غرضاً. ظاهرة مدهشة.

في سوق النبطية
إلى النبطية أخيراً. عند مدخلها مجموعة شبان يوزعون على السيارات صور حسن نصرالله، بكل تهذيب. التهذيب نفسه الذي سيلاقينا به شاب بأناقة شبه عسكرية في بذلته الرياضية الخاصة بمشّائي الجبال، طالباً من علي بطاقته الصحافية. لطف وابتسامة: "موفقين". إنه الظهور الخفر والأول لحزب الله.

هنا المصيبة، هنا المدينة المعاقبة. هنا روح الثأر الإسرائيلية.. وهنا أيضاً في هذا الصباح "السياحة الحربية": سيارات ومشاة وكاميرات الهواتف وكاميرات التلفزيونات والصحافيين، والفرجة على الهول. وبالمقابل، السكان أو العائدون قبل يوم، كانوا يتفرجون على المتفرجين أو ينصرفون للملمة أشلاء بيوتهم ومحلاتهم وتفقد أملاكهم وخساراتهم. وقف صاحب متجر مشلّع وفي داخله تطايرت البضائع واختلطت: "الحمدالله، خسائر محدودة لكن الكمبيوتر اختفى". يضحك.

الشرطي الذي لم يغادر النبطية أكد أن المتاجر لم تُمس، لم تتعرض للنهب. لكن السرقات حدثت للبيوت.

إنها النبطية. إذاً، بديهياً، المحل الأول الذي سيستأنف العمل هو الملحمة. الذبائح الطازجة وزحمة الزبائن. مشهد شهي في قلب الخراب الفظيع، الذي صنعته إسرائيل بكل قسوة وتشفّ من "عاصمة" جبل عامل.

أربعة رجال تجاوزوا ستيناتهم، هم الذين بقوا وحدهم في وسط النبطية طوال الحرب. كانت روايتهم بسيطة جداً: "لم نختبر قصفاً كهذا. هذه الحرب لم تنته بعد. في الأيام الأخيرة نفد الطعام والماء. عشنا شهرين بالعتم والظلام الدامس. أكثر من 120 قتيلاً في السوق ومحيطه. مدنيون ومقاتلون". ثم ولا كلمة سياسية. صمت أو هزات رأس. وواحدهم فقط يقول: لا نريد حرباً أخرى بعد الآن: "خلص".

الصيدلانية بثوبها الأحمر المضيء وخوذة الدراجة النارية على رأسها ووجهها المبهج، كانت تتفقد صيدليتها التي انخلع بابها الحديد، وتصور محتوياتها القليلة: "أبي السبعيني قضى عمره يقول البلد على كف عفريت. أما حان لهذا العفريت أن يموت؟ اليوم، نشعر أننا قادرون على الحكي: لا معنى لهذه الحرب. لا أرى انتصاراً". كانت تتحدث بلا انفعال. كأن كتلة مشاعرها المختلطة بين المصيبة والنجاة وقلة خسائرها الشخصية وحزنها على مشهد السوق المدمر جعلها هكذا هادئة إلى حد مربك. تشير إلى الشارع المقابل حيث ركام مبنى سوّي بالأرض: "زوج أختي افتتح محل ذهب وصاغة قبل الحرب بشهر. كل شقاء عمره تحت الردم. الذهب ذاب مع الحديد في التراب والإسمنت". تدير وجهها وتبتعد.

في الطابق الأول للمبنى الشاهق المشوّه بأكمله والمحاط بالحطام، حيث الشرفة الواسعة ("ترّاس" فسيح)، ابتدعت مجموعة من الشبان جلسة كأنهم يرتجلون مقهى مستوحى من سوريالية الدمار و"جمالياته" الوحشية. جلسوا هكذا يتفرجون من عل على الغرائبية الطالعة من حياة اليوم الثاني للهدنة.

كان كل شيء يحدث كأنه في زمن مشوه وملتوٍ، خارج أي سياق عقلاني وغير قابل للإدراك. غرائبي إلى حد مخدّر.

نحو إقليم التفاح
قوافل "سياحة الحرب" تزداد. وكما حال ناس مسيرة الطريق الساحلية، الوجوم هو المسيطر، وكذلك حال الاستثناء لسيارة أو اثنتين ترفع الراية الصفراء وصورة "السيد". لكن أيضاً ومن قرى الزهراني إلى النبطية، ثمة "نشاط" مقصود ومستجد لـ"حركة أمل". كأن هناك إرادة سياسية ناشئة عندها للظهور بمظهر المبادر إلى تعبئة فراغ ما. تكثيف بنشر الأعلام، الإكثار من تنظيم مسيرات من بضعة سيارات ترفع راياتها الخضراء وتضج بالأناشيد، تجول بين القرى، وإن كانت تُقابل بنظرات الاستغراب والاستهجان أو عدم الاكتراث تقريباً. فهذه الأفعال ربما تسري في الضاحية الجنوبية وبعض أحياء بيروت، لكنها نافرة هنا في القرى التي يسيطر عليها الصمت الكئيب والسبات وفراغ معظم سكانها.

نخرج من النبطية نحو الخردلي. أوتوستراد من نفايات تمتد لكيلومترات. من أين أتت؟ من رماها هنا في هذا الخلاء البعيد عن البيوت؟ ثم يتسلل الرعب.. لا أحد غيرنا على هذه الطريق الموحشة. هل ستأتي مسيّرة وتقصفنا؟ هل تنتظرنا دبابة في الأفق؟ هل من قناص بين الأشجار البعيدة أمامنا؟ لقد ضاعت الحدود وباتت خطوط التماس ضبابية.

الجنوب كله على هذا المنوال: ليس محتلاً وليس محرراً.

ننعطف نحو العيشية. الريف هنا ما زال ريفاً. والقرية لا تزال قرية "وادعة". جمال البيوت المتواضعة والبالغة الترتيب الهندسي. شخص واحد فقط صادفناه. الحرب لم تمر من هنا.

ندخل إقليم التفاح سائرين وراء قافلة من شاحنات محمّلة بأبقار. ومرة جديدة تبدأ "البصمات" الإسرائيلية بالظهور: منازل محددة في كل قرية سُويت بالأرض. كأن ثمة قائمة شيطانية بالبيوت الملعونة. وفي ساحة كل قرية، أو قرب مسجد، ثلة من الشبان، سيماؤهم تشي أنهم من "الحزب". لا عراضات ولا أي مظهر احتفالي.

وديان وجبال خلابة وغيوم تهدد بعواصفها، ونحدس أن في قلب هذه الطبيعة تختبئ الأسلحة وتستعد للعمل مجدداً.

واو العطف
نعود إلى دير الزهراني، وندخل إلى كفروة، قرية مسيحية صغيرة، أراد علي أن نرى فيها سنديانة خرافية تتوسطها، سارداً مراهقته الشقية في تلك القرى. كأنه أرادنا أن نرى خبايا أخرى من الجنوب منفصلة عن تواريخه الحربية.

نصل إلى الساحل مجدداً: قوافل العودة إلى الجنوب مستمرة بكثافة أشد. إصرار عميق على ملاقاة الأرض. اشتياق إلى كرامة البيت وعنفوان القرى.

كان شعب الجنوب وحيداً هذه المرة. بعيد في مشاعره وعواطفه عن كل ما يقال في بيروت وضاحيتها، وتلفزيوناتها وصحفها وسياسييها وأحزابها. بعيد عن كل الصخب والشغب والمشاكسة والاستعراضات. كأن فجأة، حدث تحول عميق. إذ كان هناك شعب حزب الله، وصار هناك الآن "شعب" و"حزب الله". واو عطف بلا قطيعة، لكن باختلاف حقيقي سببته هذه الحرب ولم يترجم بعد في السياسة، وربما لن يُترجم.

بكل الأحوال، كان شعب الجنوب وحده بوجومه وحيرته وخساراته وآلامه.

كان الجنوب وحده يبكي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها