عند الثامنة والنصف صباحًا، تقف سيدة أربعينيّة في منتصف سوق معوض التجاريّ. تقترب من المحال التي تحولت إلى فراغات مُعتمة كمغارات سوداء. تتأمل هذا الخراب، تتقلب ملامح وجهها بسرعة، تتعكر بمزيجٍ من الغضب والحسرة. تلتفت قليلًا فتردّد الهتافات مع عشرات الشبان الذين يتجولون في أحياء الضاحية الجنوبية على دراجاتهم النارية، وهم يحملون صورًا للأمين العام السابق لحزب الله، السيد حسن نصرلله. تصرخ عاليًا بالأناشيد الحماسية، تغني وتصفق بفرحٍ، وترفع صورة نصرلله عاليًا، ثمّ تبكي فجأة لفقدانها "السيد". فتشدّ بأصابعها على الصورة وتمسح دموعها بالمنديل.
العودة إلى الديار
يتجمع المواطنون على طول أوتوستراد هادي نصرلله. يحتفلون بعودة الضاحية إليهم. هذه الضاحية التي تحولت خلال شهرين ونيف إلى لوحة قديمة لُوّنت بالأسود والأبيض، وصُبغت شوارعها باللون الرماديّ الباهت. عند مداخل الضاحية الجنوبية الرئيسيّة، بالقرب من منطقة الغبيري، يقف شبان لتوزيع عشرات الصور للأمين العام السابق. يحملون الأعلام الصفراء، ويرددون عبارات النصر فقط.
انتصارٌ شعبيّ، كاد أن يكون شبيهًا بالأعراس التي يشارك فيها كل سكان القرية. يتقصدون الاقتراب من عدسات الكاميرات، على خلاف الأسابيع الماضية، يرفعون شارات الانتصار، يرددون الشعارات الحزبية، ليؤكدوا أنهم عادوا إلى الديار و"انتصروا" على العدو الإسرائيليّ.
يتجول عشرات السكان في الشوارع، يطوفون الأحياء بهدوء وترقب. يراقبون آثار الدمار، لم يتوقعوا قط أن تتحول ضاحيتهم لمنطقة منكوبة. يتعانق أهالي السكان تحت المباني بالدموع، يشكون معاناتهم في النزوح. في منتصف الطريق، ترفع إحدى السيدات صورة لنصرلله، جالسًا خلف مكتبه يتابع العمليات العسكرية في جنوب لبنان، مرددةً أمام صديقتها أن نكهة الانتصار مُرّة في ظل غياب "السيد".
هول الدمار
يجول السكان في الأحياء، وكأنهم غرباء عن المنطقة، كضيوفٍ يطوفون في بلاد غريبة للمرة الأولى، يندهشون من غرابة الأحياء التي تشوهت وما عادت مُعتادة. يحاولون كبت قهرهم من خلال مواساة بعضهم، مؤكدين أنهم سيعمرون ما تهدم ولن يهجروا الضاحية مجددًا. وبين الحين والآخر، يطلق الرصاص ابتهاجًا، فتمتعض النسوة من رشقات الرصاص، ويحاولن الابتعاد، فأصوات الصواريخ وهدير الطائرات الحربية لم تُنس بعد.
يحاول السكان إعادة الحياة للضاحية في اليوم الأول من العودة، بعد أن سُلبت الطمأنينة منهم لأسابيع طويلة. بين الأحياء المُدمرة، يفتح أحد الشبان أبواب محله المخصص لبيع وصيانة الهواتف الخلوية، ينفض الغبار عنه ويستقبل المارة بابتسامةٍ دافئة. العديد من المتاجر الغذائية فُتحت، وبعض المقاهي. الحلاقون عادوا للمنطقة. باشروا بتنظيف محلاتهم، ويحاولون إزالة الردم المُتراكم أمام متاجرهم لاستقبال الزبائن. أما المباني المُدمرة جزئيًا، والتي قد تشكل خطرًا مباشرًا بسبب انهيارها المُفاجئ، فأصر سكانها على تمضية بعض الوقت على شرفات منازلهم، وهم محاطون بالخراب والدمار، فمذاق قهوة الصباح كان مختلفًا اليوم.
يُعاين السكان مبانيهم، يتنقلون بين الأحياء المُهشمة، يحملون أغراضهم التي وضعوها في أكياس بلاستيكية، يريدون إعادتها للمنزل، يستعجلون في تنظيف المنازل للعودة إليها. أمام أحد مداخل المباني، تقف إحدى النساء حائرة وربما عاجزة إزاء ما أصاب منزلها، المياه غير متوفرة والتيار الكهربائي مقطوع ويحتاج المبنى إلى ترميم، فتحاول حبس دمعتها لأنها باتت مجبرة على العودة إلى المكان الذي نزحت إليه منذ شهرين.
انتهى كابوس الضاحية الجنوبيّة، عاد السكان إليها وإلى أحيائهم وبيوتهم الّتي تغربوا عنها قسرًا لأسابيع وإن كانت ركامًا. فيما يستعدون اليوم، لدفن معالم مرحلة عصيبة، وترميم ذاكرتهم، والحزن عليها بما يليق بها.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها