منذ السّاعة الخامسة من فجر اليوم، كان المشهد في بيروت احتفاليًّا بامتياز، كان أشبه بشيءٍ يتفتّح. شيءٌ حاسم لأوّل مرّة، لم يكن ربيع بيروت، بل شيءٌ أشبه ببداياته. بدا وكأن غشاوة الخوف الّتي لا تنقشع، انقشعت، في هذه اللحظة، وتضاءلت معها الشوارع والبيوت والمدن اللّبنانيّة وفقدت صلابتها وغسلت غبارها، لتستقبل أبنائها بهزائمهم وانتصاراتهم وجراحهم ونكباتهم، بعد تغرّبهم المفاجىء عنها.
مواكب العودة
استيقظت بيروت اليوم على غبطةٍ مباغتة، على احتفالٍ صاخب رغم أنّها لم تتجرع بعد صدمة أبنائها الذين قتلوا فيها أمس. ولمّا كانت حاجة بيروت للحظة فرح، جبارة، فإن احتفاليّة أبنائها وسكّانها المؤقتين، قد لبّت هذه الحاجة.
تجول "المدن" منذ الصباح، في العاصمة اللّبنانيّة بيروت، في المدينة منخورة القلب الّتي عاشت ليلةً جهنمية من الغارات الجويّة المباغتة. وحيث انطلقت ومن تحت زخات المطر، مواكب النازحين العائدين إلى بيوتهم في الضاحيّة والجنوب والبقاع. فيما تصل عشرات الدراجات الناريّة، محملةً بزماميرها وشبانها أصحاب الأعلام الصفراء لتجوب شوارع المدينة من شارع الحمرا وصولًا إلى محيط الأشرفية، على إيقاع الأناشيد والأهازيج، يُصاحبها عشراتٌ من الباصات والحافلات لنقل العائلات ومتاعهم.
من شارع الحمرا، تنطلق المواكب، تشقّ طريقها في زحمة سيرٍ خنقت الشوارع العموميّة والأوتسترادات، ولكن لم يشتك منها العالقون بها، إنّها الزحمة المُحبّبة الّتي طمح لها المهجّرون قسرًا. متماسكًا ومودعًا سكّانها المؤقتين، يفرغ الشارع الشهير تدريجيًّا، ويبقى فيه رواده الدوريين، ومُحبّيه الذين وقفوا أمام ركام الغارات الجويّة عليه، بمزيج متناقض من الأسى والانشراح. أما في زقاق البلاط ومحيط النويري، حيث تطفو الفاجعة قاسية، فغسلت الأمطار، دمويّة اللّيلة "الأبوكاليبسيّة" الفائتة، لتعود الحياة تدريجيًّا إلى المنطقتين الشعبيتين المكتظتين.
"سنعود أخيرًا، نحن شعبٌ صابر ومُحتسب، وانتصرنا وسنعود إلى أرضنا في الجنوب وإلى بيتنا، ولو كان ركامًا"، تقول هنادي، الصبيّة العشريينيّة الّتي كانت تقطن موقتًا في مدرسة "علي بن أبي طالب – المقاصد" والّتي حولت إلى مركز إيواءٍ في قلب العاصمة بيروت، مضيفةً: "أتمنى ألّا تتكرّر هذه التجربة، خسرنا كثيرًا ولكن مرّ هذا الكابوس، الحمدالله".
في جولتنا على مركز الإيواء، آنف الذكر، نتفقد غرف المدرسة الّتي فرغت من قاطنيها المؤقتين، الذين جمعوا أمتعتهم بأكياسٍ وحقائب، فيما حمّل البعض صناديق المساعدات المقدمة من دولٍ عربيّة عدّة، معهم. يتدافع هؤلاء على الأدراج نزولًا وصعودًا، مسرعين للتحضر إلى الإنطلاق. يلاحقنا الأطفال في جولتنا على الغرف الدراسيّة الّتي فرغت من قاطنيها، بعضهم رسم على وجه العلم اللّبنانيّ وشعار حزب الله، آخرون امتشقوا الأعلام الصفراء، فيما قلّة قليلة حملت المنشورات الّتي وزعها الجيش اللّبنانيّ عليهم والّتي تضمّ إرشادات بالإجراءات الاحترازيّة في حال إيجاد أي مواد مشبوهة أو عسكريّة في مناطقهم. يقول أحد الأطفال لـ"المدن": "انظري إلى هذه الإرشادات، أنا سألتزم بها، وأخذت عدّة منشورات لأعطيها لزملائي في المدرسة في الشهابيّة". نسأله عن أوّل ما سيقوم به لدى العودة، ليجيب: "سألتقي بأصدقائي وألعب في البستان وثمّ سأقوم بزيارة "الجبّانة" لقراءة الفاتحة على الضحايا من عائلتي".
تخبرنا أمينة، السّيدة الأربعينية من بلدة الشهابيّة، والّتي جاءت منذ الشهرين إلى مركز الإيواء هذا، أن الإيجابيّة الوحيدة لهذه الحرب أنّها تعرفت خلالها على صديقات جدّد، وشدّدت على أن التواصل لن ينقطع معهن، قائلةً: "أرجو ألّا تتكرّر هذه التجربة وألا يصيب لبنان أي مكروه مرّةً أخرى، نحب هذا البلد ويحبنا، وسنحميه ونحافظ عليه".
عودة الحياة
سحر العودة العظيم، الذي أصاب المهجّرين بما يشبه الهذيان، انسحب ليظلّل العاصمة بهالةٍ من الغبطة المشوبة بشيءٍ من القنوط، وكما المناطق الّتي احتضنت النازحين، ضجّت بأهازيجهم وزغاريدهم وزمامير سيارتهم الابتهاجيّة وأحيانًا برصاصهم، ازدحمت شوارع المدينة وتحديدًا في الأشرفيّة ووسط بيروت وتخومها، بالمارة وروّاد المقاهي الّتي عادت وفتحت أبوابها أمامهم بعد إغلاقٍ قسريّ دام شهرين.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها