تطرح عليه مباشرة سؤالاً آخر: "قصفوا البيت؟". وقبل أيام قد سرى إلينا الخبر بدمار بيت خالي، فكان أن أخرج خالي المفتاح من جيبه، وقال مبتسماً "لا يهم فالمفتاح معي"، هل كان يكابر فوق جرحه، أم حاول التماثل مع ميراث صوفي؟ ردّ أبي على أمي بالنفي. بدا الاطمئنان على وجهها، وهي تستهين بكل أمر ما دون الموت والدمار.
أعادت أمي جملة مراراً: "ما تبكي إنت زلمي"، عبارة ترددت كثيراً في ذلك المأوى على مسامع رجال مع كل بلاغ عن شهيد أو بيت مدمّر يخص أحدهم. زلمي أو رجّال كلمتان أليفتان جداً لديّ. فمنذ ثلاث سنوات سبقت الاجتياح، جاءت معلمتان لتوصيا أمي بانضمامي لأول روضة أُسست في المخيم ذلك العام، روضة دلال المغربي. لم تكن فوائد التعليم محور الحديث، بل عن الطفل الذي سيصير رجلاً أو زلمي يشارك بالتحرير. وفي الروضة كان نشيدنا الصباحي "روضتنا روضة دلال/ بتعلّمنا نصير رْجال"، مع أن أحد أهداف التعليم المبكر أن لا يقفز الطفل نحو مراحل عمرية متقدّمة قبل الأوان.
البطل يبكي
وأنا طفل في الثامنة، ما بين منتظر أن يبوح أبي بالسرّ، وذهول لدموع ما كنت أظن أنها يمكن أن تُذرف. كطفل كان الأب هو البطل، هو الذي يحمل، فهو الأقوى، يركل الطابة عالياً عند شاطئ السان سيمون فيصيب الخيال، فأوقن أنه اللاعب الأقدر. حتى وهو يصرّ في أحاديثه خلال سهرات في بيتنا يحضرها الضابط في جيش التحرير الفلسطيني أبو خلدون، على أن الجيش الإسرائيلي سيصل إلى صيدا، كنت أعتقد أنه تمنِ منه لأنه ينتظر أن يقتص من جيش الاحتلال.
ها هو البطل يبكي وينتحب. تكرر أمّي السؤال، يجيب أخيراً: "رأيت قطة، بالكاد تستطيع أن تمشي من شدة الجوع، ولم أستطع أن أفعل شيئاً". تبتسم أمي كمن أزاح حملاً ثقيلاً عن كاهلها، لكن أبي يستمر بالبكاء بحشرجات متقطعة. نعم، كان يألف القطط، لكن تلك القطة هي التي كشفت عن عجزه في تلك اللحظة. كانت تشبه انكساره، أو انكساراً جماعياً يترقبه، كما بقية الفلسطينيين.
وحدتها تماثل وحدته في الأسابيع الأخيرة، وجوعها يشبه الحاجة والفراغ اللذين سيصعب ملؤهما بأماني الانتصار القريب. هو الذي حمل عجزه وذهب إلى القطة في المخيم الذي يبقى المكان الوحيد حيث يمكن أن يتحرر من غربته. رغم أنه يعرف العشرات من غير جنسيته، إلا أن شعوراً لا يفارقه، هو اللاجئ المتطفل على هذا العالم، لا ينتمي لمكان سوى المخيم، فهناك من يشبهه ولا يطرح عليه الأسئلة الساذجة: "لماذا بعتم أرضكم، لماذا اخترتم لبنان ولم تختاروا بلداً آخر، لماذا لا تعودون لبلدكم أو تهاجرون؟".
ربما عاد إلى المخيم رفضاً للنزوح، الذي لم يعتده رغم تكراره. فالنزوح قهْر المكان وانتصاره على روح الإنسان. قيل لي إنه في اليوم الرابع لولادتي جاء عمي وحملنا في سيارته، وغادر بنا المخيم نحو بيته لأن المخيم على وشك أن يُقصف. ومنذ ذلك الوقت كنا نعيش في دائرة النزوح ما بين مخيم الرشيدية وبيروت والبقاع. عاد إلى المخيم، المكان الذي يمكن أن يبوح فيه بوجعه، حتى لو أمام قطة.
"طل سلاحي"
قلبت تلك القطة مشاعره التي كان يكبتها قبل ذلك، صار بكّاءً. يعبّر عن خيباته، وتشاؤمه من قادم الأيام، وعن هزيمة ننتظر. المرّة الوحيدة التي لم أصدّق أبي أننا يمكن أن نُهزم. في الروضة حدّثتني المعلّمات عن قوة الثورة، والانتصارات. وحفظتُ، وطلاب صفي، معظم أناشيد وأغاني الثورة، من نشيد "فدائي" إلى "طل سلاحي" و "عالرباعية". وفي مدرسة اليرموك، نردد كل صباح القسم الذي وضعه أبو ماهر اليماني عام 1949 "فلسطيننا لن ننساك/ ولن نرضى وطناً سواك"، ثم نغني مع فيروز صبحاً أن "الغضب الساطع آتٍ". قبل أن يحدثنا مدير المدرسة العجوز فايز العكي عن فلسطين، التي أقسم أن لا يتزوج إلاّ حين تحريرها.
وحين فُرضت الخدمة الإجبارية قبل الاجتياح بعام واحد، صار هناك تدريب شبه يومي لطلاب الصف السادس، فكنت أنظر من الشباك إلى الطلاب الفخورين باعتمار القبعة السوداء التي تعلوها زركشة تماثل الكوفية. وفي طريق العودة من المدرسة إلى البيت، كنا ننشد بطريقة تستحضر كل قوانين وحدة الجماعة "روّحنا (هي لوّحنا) عالقواعد روحنا/ بالدكتريوف والأر بي جي لوحنا". وفي البيت أرى إخوتي وقد جاؤوا من معسكر التجنيد الإجباري القريب من المخيم بالبدلة الخضراء الملطخة بالتراب، يروون حكايات عن التدريب، وزيارات أبو عمّار المتكررة، وتفاصيل عن معسكر أبو العبد خطاب، الذي ستُدفن فيه، بعد سنوات، جثة الرهينة الفرنسي المفكر ميشال سورا.
كل هذا المشهد لم يكن ينقصه إلا إعلان النصر النهائي لتكتمل صورته، لكن جاءت القطة لتخرمش المشهد، وتفسد نهايته السعيدة، بل وأسقطت البطل، وحوّلته إنساناً مكسوراً، اكتمل انكساره وتشرذمت شظاياه، مع خروج قوات الثورة الفلسطينية من بيروت بعد أيام من زيارته للمخيم. مع أنه لم يكن يحمل ودّاً كبيراً تجاه تجربة الثورة في لبنان، وقد غادر أطرها التنظيمية قبل عشر سنوات من الاجتياح، بعدما دُعي إلى عشاء باذخ، وهو الذي كان يكرر قصة أبيه في عكا حين غمس حبة تين في التراب، ومضغها، ليؤدب نفساً بالغت في اشتهائها. لم يرث أبي الطريقة الصوفية، لكن العرق دسّاس، فورث سلوكاً صوفياً رغماً عنه. انتقد الثورة وبكاها.
عُدنا إلى المخيم، ورجع أبي إلى تربية القطط، لكن من دون حماسة للحياة، وصناعة بهجتها. لكني لم أتآلف مع القطط التي بقيت في مخيلتي رمزاً للحرب والنزوح الموجع، الذي لمستُ نتائجه في تلك الدموع. بعد عامين، نزوح آخر إثر ما عُرف بـ "انتفاضة 6 شباط"، يدفع أبي إلى قرار بالتخلي عن القطط. بعد عودتنا يمرض أخي الأصغر مرضاً فيقيم بالمستشفى أكثر من شهرين. إصابة أبي أثناء تقصّد المستشفى، بشظايا قذيفة سقطت بمنطقة الغبيري، تدفعه وأمي إلى الاعتقاد أن توالي المصائب هو بسبب هجْر القطط.
يدفعه ذلك إلى الإتيان بقطة مصابة، ومداواتها، ثم الاعتناء بها، ليقي بها الشرور القادمة، لكنها بدلاً من ذلك تضاعفت تلك الشرور. الحرب تحتدم، فيقرر الهجرة إلى المغرب، معاكساً اتجاه رحلة جده وأبيه قبل ستين عاماً، وفي محاولة لاستعادة الجنسية المغربية. قصد جدُه ذلك البلد البعيد، وقضى فيه أربعين عاماً يبشّر بطريقة صوفية. ثم قرر العودة مع ابنه الشاب الذي رضخ مكرهاً لقرار أبيه، حاملاً ابنته. وقال الجدّ حين عودته إلى فلسطين إنه أتى به شوقه لأخيه موسى وأرضه.
ثورة الريف
يشير تاريخ العودة إلى أنه كان عام احتدام الصراع بين قوات الريف المغربي بزعامة عبد الكريم الخطابي وقوات الجنرال الفرنسي لوي هوبير غونزالف ليوتي الذي استطاع أن ينتصر بفضل انحياز شيوخ الطرق الصوفية له، واعترف الخطابي بأن مشايخ الطرق " كانوا ألد أعدائي وأعداء بلادي". سأميل، دون دليل، إلى أن جدّ أبي لم يكن معادياً لقائد ثورة الريف الذي حث ماو على قراءة تجربته.
أوصى أبي مراراً بتلك القطة خلال شهر من انتظار موعد السفر، لتسنح له الفرصة برد دَين لتاجر مسيحي في المنطقة الشرقية المحترقة من بيروت، ولتدريب أخويّ على خدمة رجل مُقعد من الجنوب اللبناني، ومعاونته على الاستحمام، وهو ما فعلاه لسنوات طويلة لاحقة، حتى قضى الرجل أجله. لا أدري إن كان عطف أبي على القطط حمى قلبه من سهام الكراهية التي أصابت كثيرين في تلك الحرب.
عام ونصف قضاها في المغرب، ستقع خلال غيابه الحرب الأعنف، والجوع الأكثر توحشاً، ولم يبق غير القطط طعاماً للجوعى في المخيم. أمضى الليلة الأولى بعد عودته يتحدث عن رحلته، وأقسى محطاتها حين قرأ أسماء زوجته وأولاده في قائمة الشهداء بدلاً من أن تكون في قائمة الجرحى. وأخبر أن الجنسية كادت أن تقع بين يديه لولا لقاء جمع زعيم البوليساريو محمد عبد العزيز بياسر عرفات في المجلس الوطني الفلسطيني. وفي نهار اليوم التالي، سأل عن القطة، فأعلمناه أن مصيرها لم يكن بأفضل حال من مصير بقية قطط المخيم. بدا أن همومه الأخرى تشغله.
بعد أيام من اغتيال السيد حسن نصر الله، على بعد عشرات الأمتار فقط من مخيم برج البراجنة، الذي غدا شبه خالٍ، شعرتُ بالحاجة إلى إطعام ما تبقى من قطط جائعة. رغم أنه طيلة السنوات الماضية، مثّلت القطة لديّ ما يسميه زيجمونت باومان فرسان نهاية العالم الأربعة: الموت، والمرض، والحرب، والجوع، وصرتُ أتطيّر وأتشاءم من رؤيتها.
جلبت علباً من التونا، وركبت دراجة نارية، وتوجهت من صيدا إلى المخيم شبه المهجور، لأطعم القطط. ربّما كانت محاولة لأسترد روح أبي، أو أمحو تلك اللحظة التي ظهر فيها عجزه، أو هي بعض دوافعه بالعودة إلى المخيم، حيث لا أبدو دخيلاً على العالم، لكن أياً كانت الأسباب، تكاد تكون الحكاية نفسها يُعاد تدويرها.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها