في كل مرّة يحاول أهالي مدينة صيدا، وسكان مخيم عين الحلوة تحديدًا، تهدئة صراخ أطفالهم المرعوبين من أصوات القذائف الصاروخية والأسلحة الثقيلة المستخدمة في معركة عين الحلوة المندلعة منذ آب الماضي، حتى تشتد المعارك بأقوى مما كانت عليه.
لا مبالغة بالقول بأن صيدا المُفعمة بالحياة، تحولّت إلى مدينة عليلة، صامتة، هجر سكانها شوارعها وساحاتها وانزووا في منازلهم.
إلى صيدا وحول المخيم
في جولة ميدانية لـ"المدن" في منطقة "سيروب" والأحياء المجاورة لمخيم عين الحلوة، يظهر واضحًا للمرء حالة الخوف المطبوعة على ملامح المشردين من سكان مخيم عين الحلوة والأحياء المحيطة به. وجوه متعبة، ملامح باهتة، أطفال خائفون.. ضياع وتشتّت، وترداد لرغبتهم الوحيدة: العودة إلى بيوتهم التي تركوها.
وأثناء مرورنا بمنطقة سيروب وبالقرب من المدخل الرئيسي لمخيم عين الحلوة، رصدنا تدفق الكثير من السكان من المدخل الرئيسي للمخيم، راكضين بخطوات سريعة، حاملين الحقائب وممسكين بأطفالهم مبتعدين عن زخات الرصاص المتواصلة.
انطلاقًا من بيروت ووصولًا إلى مدينة صيدا، تتنوع المشاهد الميدانية، وكأنها التقطت في فترات متباعدة جدًا وليس في اليوم نفسه. بين الدامور وصيدا تختلف الصورة جذرياً. المسابح اللبنانية المتوزعة بين الدامور والجية مكتظة بالمواطنين من غير اكتراث لما يجري على مبعدة كيلومترات قليلة. لكن زحمة السير تتقلّص تدريجياً وصولًا إلى حاجز الأولي عند مدخل صيدا، ليظهر مشهد مختلف تمامًا عن الصورة الأولى؛ عناصر الجيش منتشرين بكثافة، بحالة استنفار واضحة، حيث عمد الجنود إلى الاحتماء وراء المتاريس وخلف العوائق الإسمنتية الضخمة، تحسباً من شظايا القذائف الصاروخية والرصاصات الطائشة المتطايرة بين الحين والآخر في سماء المدينة.
الشوارع شبه خالية من سكانها. صيدا كمدينة أشباح، فقط ما يدل على وجود الناس هو ذاك الجالس وحيداً بالقرب من الملعب البلدي، بائع الدمى اللامبالي بكل ما يحصل حوله، يفرش الدمى الملونة على الرصيف، راجيًا أن يبيع إحداها بطريقة ما. وما من أحد على الشاطئ الرملي، فيما يظهر واضحًا أن طاولات المسبح قد تركت فجأة، فبقيت عبوات المياه عليها والمظلات مفتوحة.
المدينة المكتظة بسكانها عادة، تحولت إلى أحياء صامتة. جميع المحال التجارية مقفلة، حتى تلك المخصصة لبيع المواد الغذائية والأطعمة. وهذا الصمت المثير للرهبة يكسره صراخ الأطفال وضجيجهم داخل بلدية صيدا، الذين هربوا من بيوتهم بالمخيم برفقة عائلاتهم، فتوزعوا تحت الأشجار، حاملين الفراش الإسفنجية وعبوات المياه الصغيرة.
هجرة سكان المخيم
أهالي مخيم عين الحلوة وبعض المناطق المجاورة له، هجروا بيوتهم منذ أيام وتوجهوا نحو بلدية صيدا للمكوث هناك. في اليوم الأول للاشتباكات، هرب حوالى 12 شخصًا فقط. إلا أن العدد لامس اليوم حوالى 600 شخص، ينتشرون في الباحة الكبيرة لبلدية صيدا بعيداً عن خطر الموت، وفقًا لكلام أحمد بتكجي، المسؤول عن جمعية الكشاف المسلم في بلدية صيدا.
المعلوم بأن البلدية غير قادرة على احتواء حوالى 600 شخص، أو تأمين المأكولات والمشروبات لهم. وقد ساهمت مجموعات خيرية في التبرع ببعض الوجبات الغذائية، إلا أنها غير كافية. فالباحة الكبيرة المليئة بالأشجار تحولت إلى ساحة ممتلئة بالوسائد الإسفنجية المتوزعة بجانب بعضها البعض. أما المشكلة الكبرى، فهي أن هذا العدد الضخم يستخدم حمامين فقط، الأمر الذي أدى إلى أزمة كبيرة.
مشهد الأطفال كان مقلقاً، فمعظمهم شبه عراة ومن دون أحذية. وأخطر ما في الأمر، بأنهم يعانون من عوارض "تروما" الحرب، فهم يضربون بعضهم البعض ويمارسون الأعمال العنفية تجاه بعضهم.
الخوف والعنف
ما رصدته "المدن"، أكده بتكجي بدوره، الذي شرح لـ"المدن" بأنهم لاحظوا هذه الحالة على معظم الأطفال خلال الأيام الماضية، وتبين بأنها ناتجة عن الأجواء المشحونة التي عاشوها داخل مخيم عين الحلوة. فالعوامل السلبية أثرت عليهم بشكل لافت، وانقسموا إلى فئتين. الفئة الأولى من الأطفال عانت من عوارض صحية كالإسهال والآلام الحادة في البطن والبكاء المستمر، أما الفئة الثانية فمارست العنف تجاه باقي الأطفال، حتى خلال ساعات اللعب.
وفي حديث خاص لـ"المدن" تشرح السيدة نجوى ع. (45 عامًا) عن معاناتها داخل مخيم عين الحلوة. فمنذ حوالى الأسبوعين غادرت منزلها برفقة أطفالها الثمانية، وتوجهت نحو بلدية صيدا للاختباء، وتقول بأن المعارك قد اشتدت خلال الأيام الماضية ولم يتوقف صراخ أطفالها، فهربت من دون أن تتمكن من إخراج جميع أغراضها من المنزل، ولم يكن بحوزتها سوى الأوراق الثبوتية.
تتكئ اليوم على شجرة ضخمة، حاملةً طفلها البالغ من العمر 4 سنوات، والذي يعاني من إسهال حاد. فيما تؤكد بأنها وباقي الأمهات عاجزات عن تأمين الحليب لأطفالهن، وما كان منهن إلا استبداله بالماء والسكر. "هذه مأساة"، بهذه العبارة اختصرت حياتها داخل مخيم عين الحلوة. ففي كل مرة تعتقد بأن الوضع الأمني سيتحسن، تشتد الاشتباكات وتتحول أيامهم إلى كابوس يلاحقهم من منطقة إلى أخرى.
الطفل محمود أ، (8 سنوات) يروي لـ"المدن" كيفية هروبه وأسرته من حي الطوارئ بعد وقوع القذائف الصاروخية بمحاذاتهم. تركوا منزلهم فجأة ولم يتمكن من توضيب أغراضه وألعابه، لأنه كان منهمكًا بمساعدة والدته في حماية شقيقاته. وكل ما يتمناه اليوم أن ينسى الأصوات القوية والدخان الذي شاهده طيلة الأيام الماضية.
حالة الذعر تهيمن على الأطفال، وتذكر بعض الأمهات خلال حديثهن لـ"المدن"، بأن أطفالهن يستيقظون ليلًا لاهثين رعباً بسبب أصوات القذائف الصاروخية التي تُسمع على مبعدة مئات الأمتار.
وفي الأثناء يستمر "أشاوس" السلاح في تدمير العمران والحياة، باسم فلسطين أو باسم الدين.. إلخ.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها