لعلّ المفارقة الجوهريّة في كل ما يُثار عن اللجوء السّوري في لبنان من شحن تحريضيّ وتعبئة دعائية شعبويّة، وصولاً للحملات الأمنيّة الزجريّة على اللاجئين، لحملهم على العودة "طوعًا" إلى مقصلة الأسد ، تكّمن أساسًا في حاجة المنظومة الفاسدة والمقربين منها لخلق توازن كفيل باحتواء الاحتقان الشعبيّ الحالي. هذا التوازن الذي لا يصحّ سوى بإيجاد الشماعة المناسبة لتعليق الأزمات عليها: كتحميل اللاجئ مسؤولية العسر الاقتصادي والتدهور الاجتماعي والتّوتر الأمني وأخيرًا الانحدار الثقافي و"المساس بالنموذج اللبناني المتحضر".
ففيما كان الغيارى على حضارية بيروت ومدينيتها يموجون غضبًا وغيظًا على مدار اليومين الأخيرين، إزاء مشهد زمرة من الأطفال (من التابعية السّورية كما زعمت وسائل إعلام محليّة) تلهو وتسبح في بركة ساحة سمير قصير وسط بيروت، كانت وحدات من الجيش اللبنانيّ تداهم مساكن لاجئين سوريين وتباغتهم بالاعتقال التعسفيّ في جنح الظلام. وبينما تُجيش الآن حملة افتراضية مضافة لسلسلة حملات الكراهيّة المكثفة والمستمرة منذ نحو الشهرين (راجع "المدن")، غايتها حض السّلطات والبلدية على اتخاذ التدابير اللازمة لردع "مشوهي بيروت" من الأطفال السّوريين، لا يزال حوالى المئة وخمسين لاجئاً مُعتقلاً، يقبعون على الحدود اللبنانيّة -السّورية (نقطة المصنع) بترقب ووجلّ، بانتظار المصير المبهم في الداخل السّوري.
ترحيل لاجئين سوريين
بقيادة مخابرات الجيش اللبناني، انطلقت منذ نحو الأسبوعين ونيف حملة أمنيّة على امتداد الأراضي اللبنانية، اشتملت على مداهمات واعتقالات عشوائية للاجئين خلسةً إلى الأراضي اللبنانية أو عبر المعابر غير الشرعية من التابعية السّورية، لترحيلهم نحو الأراضي السّورية بموجب القرار الصادر عام 2019 عن مجلس الدفاع الأعلى، الذي قضى بترحيل أي شخص يدخل لبنان بطريقة غير شرعية، والذي يناقض بصورة صريحة تعهدات لبنان الرسمي القانونيّة، وإخلاله للأعراف الدولية والإنسانية. يُذكر أنه تم تعليق تسجيل اللاجئين السوريين في لبنان من قبل المفوضية العليا لشؤون اللاجئين منذ أيار 2015 بقرار من الحكومة اللبنانية. منذ ذلك الحين، تواصل المفوضية تتبع أرقام اللاجئين المسجلين قبل عام 2015، واعتبارًا من نهاية أيار الماضي، بلغ الرقم 805،326 لاجئًا سوريًا مسجلاً في البلاد.
وقد أفاد مركز "وصول" لحقوق الإنسان والمعنيّ بتغطية شؤون اللاجئين السوريين في لبنان، في بيان صدر له منذ نحو الأسبوع، أن مخابرات الجيش، وبعمليتين منفصلتين، قد قامت بترحيل قسريّ لما يقارب 64 لاجئًا سوريًا وبصورة تعسفية، و29 لاجئًا بين 10 و11 من نيسان الجاري اعتقلوا في مجمع حارة الصخر في منطقة جونية، انضم إليهم 35 لاجئًا محتجزًا تم اعتقالهم في منطقة وادي خالد شمال لبنان، مشيرًا إلى أن هذه العمليات جاءت من دون مراعاة وضع هؤلاء القانوني والسّياسيّ في الداخل السّوري. فيما يتولى فوج الحدود البريّة مهمة وضعهم خارج الحدود اللبنانية.
وقد أفادت مصادر أمنيّة رفيعة المستوى (فيما تحفظت كل من مديرية الجيش والأمن العام عن الإدلاء بأي تصريح) أن الجيش قد قام بغضون الأسبوع الفائت، بعمليات أمنيّة جديدة في مختلف المناطق اللّبنانيّة، أسفرت عن اعتقال ما يقارب المئة وخمسين لاجئًا سوريًا دخلوا خلسةً إلى الأراضي اللّبنانيّة، بعضهم تم ترحيله سابقًا ورهطٌ منهم استقر في لبنان لسنوات من دون أوراق إقامة. وآخر هذه العمليات كانت الأربعاء الفائت بتاريخ 19 نيسان الجاري، حين قامت وحدات من الجيش بدهم مساكن للاجئين سوريين في زحلة والعديسة جنوب لبنان وصولاً إلى منطقة برج حمود (جانب متوسطية برج حمود الثانية) في بيروت، حيث قامت باعتقال ما يقارب الست أسر برجالها ونسائها وأطفالها، ذلك حوالى السّاعة الخامسة من فجر الأربعاء، تبيّن أنهم دخلوا خلسةً إلى لبنان، وقد تبلغ الجيش عبر البلدية بذلك. وقد أفادت مصادر صحافية أن من بين المعتقلين في العمليّة التّي نُفذت في برج حمود، جندياً منشقاً عن قوات النظام.
مداهمات واعتقالات
وعليه، جالت "المدن" في محيط متوسطية برج حمود، حيث كانت مساكن اللاجئين المعتقلين، وتحدثت إلى شهود عيان أجمعوا على أن العملية قد نُفذت بصورة اعتباطية ومباغتة، وقد تمّ نقل اللاجئين إلى شاحنات الجيش باستخدام القوة العنيفة والمفرطة وسط صرخات النسوة وبكاء الأطفال. ولم يسمح العناصر للأسر بنقل أي من الممتلكات ومنها المواد الغذائية والملابس أو حتّى احتياجات الأطفال من حليب وألبسة داخلية. والمباني التّي تم دهمها يقطن شققها مختلف الجنسيات من اللبنانيين والسوريين والأرمن فضلاً عن العمال المهاجرين. وقد تبيّن أن الجندي المنشق منذ عام 2014، ن. ر. (31 سنة)، متأهل ولديه طفلان لا يبلغ أكبرهما الثالثة من عمره، قد حاول التفاوض مع العناصر وتبليغهم بوضعه القانوني والسّياسيّ، إلا أن العناصر أصروا على نقله أسوةً بباقي المعتقلين إلى مركز التوقيف.
وقد علمت "المدن" من مصادر مقربة من أسرة الجندي المنشق، أنه وعائلته وسائر اللاجئين المعتقلين لم يدخلوا بعد الأراضي السّورية، بل ينتظرون عند نقطة المصنع فتح الحدود بعد إجازة العيد، وقد تم فصل الرجال عن النساء والأطفال في شاحنات مختلفة، وسط جوٍّ من الهلع والترقب. وأكدّت المصادر تواصلها مع الجهات الإنسانية فضلاً عن المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في محاولة لإنقاذ الجندي وأسرته من خطر الدخول إلى الأراضي السّورية، خصوصاً أن الزوج (العامل في البناء) مطلوب لدى النظام، ولهم تجربة سابقة في اختفاء أحد المقربين منهم، والذي تمّ ترحيله بالظروف نفسها. وعبّرت عن خشيتها هي الأخرى من الاعتقال، قائلة: "دخلنا كما دخل قريبنا هذا خلسةً بسبب وضعنا السّياسيّ في سوريا، كنا مطاردين من قوات الأسد ولم يكن بمقدورنا الانتظار لمعالجة الأوراق اللازمة، دائمًا ما نتواصل مع المفوضية، لكن الردّ دائمًا ما يكون "عليكم بالاستحصال على الإقامة لنساعدكم"، وكيف نستحصل على الإقامة والدولة اللبنانية قد فرضت شروطاً شبه تعجيزية من بينها شرط "الكفيل". هذا الشرط تحديدًا هو الذي منع الجندي المنشق من استكمال أوراقه بسبب تعسر الوضع الاقتصادي.
حملات أمنيّة
وللاستفسار عن تفاصيل العمليّة، ساءلت "المدن" عددًا من المسؤولين في كل من قيادة الجيش والمديرية العامة للأمن العام، لكنها لم تستحصل على أي جواب، بالرغم من اتصالاتها المتكررة. هذا فيما توصلت عبر إحدى مصادرها الأمنيّة إلى أن مخابرات الجيش تتولى توقيف "المخالفين" الداخلين خلسةً إلى الأراضي اللبنانيّة، فيما رفضت باقي الأجهزة المولجة تسلّم الموقوفين، (الأمر المخالف للقانون الذي ينصّ على كون الأمن العام هو الجهاز المعنيّ بالترحيل أو الإبعاد إلى الجانب السّوري على كل من ضُبط بجرم الدخول خلسةً إلى الأراضي اللبنانية، فيُرحل ويسلم إلى السّلطات السّورية ويصدر بلاغ منع دخول بحقه). ولفت المصدر إلى أن الجيش يقوم بهذه العمليات بغية ضبط الجوّ الأمني المتفلت، وردع حركة المرور غير الشرعية عبر المعابر التّي لا تخضع لرقابته على مقلبي الحدود اللبنانية- السّورية، فيما يُسهل المهربون من البلدين هذه العمليات مقابل مبالغ تتراوح بين 70 دولاراً وصولاً إلى 200 دولار عن الأسرة الواحدة.
وفيما يبدو أن هذه الحملات لا تتوقف حصرًا على الأسباب الأمنيّة المزعومة، بل يحدّوها منهج واضح وصريح يتبناه لبنان الرسميّ، الذي عبّر من خلال مسؤوليه مرارًا عن حاجة لبنان للتخلص من اللاجئين بأي وسيلةٍ، كانت أبرزها خطة "العودة الطوعية" التّي كان قد أطلقها وزير المهجرين اللبناني عصام شرف الدين في تموز الماضي لإعادة حوالى 15 ألف لاجئ إلى سوريا شهرًيا، مستندًا في ذلك إلى أن سوريا أصبحت آمنة إلى حدٍّ كبير بعد أكثر من عقد على نشوب الحرب، ذلك بالرغم من كل القلق الحقوقي والامتعاض الدوليّ وتبرم المنظمات الدوليّة من هذه الإجراءات التّي وصفتها بالتعسفية والخطيرة، معربةً عن توجسها من هذه الخطة، التّي لم تتضمن أي دور للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، والتي تصرّ على أن الظروف في سوريا لا تسمح بعودة اللاجئين على نطاق واسع. حيث توجد تقارير عديدة عن تعرض الأشخاص للضغط للتوقيع على أوراق العودة "الطوعية"، وبالنظر أيضًا إلى الوضع الأمني الحرج في سوريا.
وقد لاقت هذه الحملات تهليلاً وسط رهطٍ لا يُستهان به من اللبنانيين المؤججين بالأحقاد الدفينة تجاه اللاجئ السّوري. هذه الحملات التّي يشنها الأمن اللبنانيّ بإيعاز من السّلطات السّياسيّة، بغية استجلاب المزيد من الدعم المالي تارةً، وعلى خُطى سائر الدول العربيّة التّي في طور التطبيع مع الأسد طوراً، تتراوح بين ممارسة الضغوط الترهيبية والدعاية الترغيبية لتنظيم قوافل العودة، وفرض إجراءات إدارية وأمنية جعلت من واقع إنجاز معاملات الإقامة تعجيزيّة، من ثم تجييش حملات أمنيّة زجريّة تتضمن مداهمات واعتقالات لكل من ليس بحوزته أوراق إقامة.
ردّ المفوضية
وقد صرحت المفوضية السّامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لـ"المدن" تعليقًا على موضوع الترحيل القسريّ للاجئين في لبنان بالصورة التعسفية هذه قائلةً: "تواصل المفوضية الدعوة إلى احترام مبادئ القانون الدولي وضمان حماية اللاجئين في لبنان من الإعادة القسرية. تتابع المفوضية هذا الأمر مع أصحاب المصلحة المعنيين وتراقب هذا الوضع بنشاط. وتحترم المفوضية حق اللاجئين الأساسي في العودة بحرية وطوعية إلى بلدهم الأصلي في الوقت الذي يختارونه. المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لا تعيق عودة اللاجئين إلى سوريا".
مضيفةً: "يقول غالبية اللاجئين السوريين للمفوضية أنهم يريدون العودة إلى سوريا، والسؤال ليس ما إذا كان، ولكن متى. لا تزال نيات اللاجئين مدفوعة بالوضع على الأرض في سوريا، وتؤثر مجموعة من العوامل على قراراتهم. يقول معظم اللاجئين للمفوضية أنهم ما زالوا قلقين بشأن السلامة والأمن؛ الإسكان؛ الوصول إلى الخدمات الأساسية وسبل العيش. تتجاوز السلامة والأمن القضايا المتعلقة بالنزاع المسلح. الخوف من الاعتقال والاحتجاز وعدم القدرة على التنبؤ بالخدمة العسكرية هي أيضًا جزء من القلق. لكي تكون العودة مستدامة، من المهم أن يتخذ اللاجئون قرارًا مستنيرًا". مستطردةً القول: "تواصل الأمم المتحدة العمل مع الجهات الفاعلة الرئيسية لإيجاد حلول طويلة الأجل للاجئين السوريين، بما في ذلك إعادة توطين اللاجئين في دول ثالثة والعودة الطوعية الآمنة والكريمة إلى سوريا. وتحقيقًا لهذه الغاية، تعمل الأمم المتحدة مع جميع المعنيين، بما في ذلك الحكومة السورية والدول المضيفة وأصحاب المصلحة الآخرين، لمعالجة المخاوف التي يعتبرها اللاجئون عقبات أمام عودتهم بأعداد كبيرة".
وختامًا أكدّت المفوضية أنه بينما تواصل الأمم المتحدة العمل على هذا الأمر، فإنها تواصل مناشدة المجتمع الدولي بقوة عدم تقليص الدعم المقدم إلى لبنان، لدعم اللاجئين والمجتمعات اللبنانية التي استضافتهم بسخاء لسنوات عديدة، والتي تتأثر بشكل متزايد بالأزمة في لبنان. ونظرًا لأن غالبية اللاجئين السوريين لا يزالون في حالة نزوح مع احتياجات الحماية الدولية المستمرة، فإن الحفاظ على ظروف اللجوء المواتية في البلدان التي تستضيفهم يظل أمرًا حيويًا".
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها