سلكت نهاد الشيخ طريقًا مختلفًا في عالم المؤثرين/ات، ميزته أن الشهرة كصناعة رائجة وما يدور بفلكها الاستهلاكي حديثًا، ليست شرطًا لإحداث فرقٍ في حياة الفرد الشخصية ومحيطه الاجتماعي.
راكمت نهاد تجاربها ومعارفها، من مهندسة ديكور عملت في الخليج، ثم مؤسسة جمعية "رفق" بالحيوان في طرابلس، إلى إطلاق علامة تجارية لصناعة حقائب للسيدات من الجلد النباتي أسمتها "asante"، وهي كلمة أخذتها من بلاد تنزانيا في شرق أفريقيا. لكن، لـ"أسنتي"، جذور تختزل قصة امرأة مختلفة، اكتسبت فرادتها من حياتها البسيطة كما تعرّف عنها.
ابنة المدينة
بابتسامتها المعهودة، تتمالك نهاد نفسها ولغة جسدها لدى طلب التعريف عن نفسها. فهي تدرك أنها ليست صاحبة شهرة ذائع الصيت، وتجد في ذلك راحة وميزة. لأن "ثمن السعي للشهرة الحديثة على منصات التواصل الاجتماعي، باهظ بالنسبة لي. أو أقله، إنه خيار لا يشبهني بمتطلباته، وأجد فيه غالبًا، ترجيح السطحية على العمق".
"إنني إنسانة عادية وبسيطة في حياتي، وبعد فترة من العمر، شعرت أنني أريد عيش ما يعنيني فقط، وأدركت لاحقًا أن عالم الحيوانات هو أكثر ما يهمني"، تقول نهاد.
ولدت نهاد في السعودية، ثم نشأت وعاشت في طرابلس. تصف علاقتها بمدينتها بالمتشعبة والمعقدة. أحيانًا، تتوق للعيش في قرية بعيدة عن صخب المدن وعنفها. لكنها سرعان ما تشعر أن طرابلس هي نصف مدينة، ولديها نصف آخر قروي. وهذا "ما يفاقم صراعي النفسي، إذ إنني غير قادرة على ترك مدينتي، ولا أحتمل سلوك العيش في المدن كما هو حالها في لبنان، بسبب علاقتي الشديدة مع الطبيعة والحيوانات".
درست نهاد الهندسة الداخلية، وسافرت إلى دبي عند بلوغها 26 عامًا وبقيت هناك عشر سنوات ثم عادت إلى طرابلس، حيث تملك عائلتها محلًا لبيع الأحذية والحقائب المستوردة من أوروبا.
وفي منتصف الثلاثينات من عمرها، تحولت نهاد إلى إنسانة نباتية، وأصبحت لاحقًا من أبرز الأصوات الطرابلسية التي تنادي بحقوق الحيوانات، توازيًا مع عملها في الهندسة الداخلية.
حاليًا، تمتلك نهاد ملجأ (shelter) في طرابلس يضم أكثر من 50 كلبًا، ولديها في منزلها مع والدتها عددًا من القطط.
في العام 2010، بدأت قصتها مع الحيوانات عبر قطة في إحدى شوارع دبي، ورغم أن شكلها لم يكن مثاليًا لمحبي القطط، لكنها أحبتها وتبنتها.
وبعد عودتها إلى لبنان، "لمستُ حجم العنف تجاه الحيوانات وتحديدًا الكلاب المنتشرة في الشوارع. وحتى الكلاب الشاردة لا تمارس العنف إن لم تتعرض لموقف مسبق ما".
وبقيت نهاد لسنوات تعمل مع بلدية طرابلس على جمع الكلاب الشاردة، إلى أن أسست جمعية "رفق"، ومن أهم أهدافها السعي إلى مساعدة الحيوانات المعرضة للخطر وانقاذها، والعمل على ضمان تقديم الرعاية الصحية والتغذية والتربية المناسبة لها. إضافة إلى سعيها إقامة المنشآت المناسبة والظروف المعيشية الضرورية لإيواء الحيوانات، مع تقديم المساعدة لمالكي الحيوانات بالنصح والإرشاد، وتعزيز ثقافة المحافظة على حياة الحيوانات.
وتدعو نهاد إلى ضرورة البحث في الخلفيات المجتمعية والنفسية وراء انتشار ثقافة العنف ضد الحيوانات، وتجد أن التربية المنزلية التقليدية أحد أبرز منابعها. وتقول: "إن شريحة واسعة من الآباء وفي المدرسة والحي السكني، حين يريدون تأنيب أو إهانة شخص ما، يقومون بتشبيهه بالحيوانات، ما خلق علاقة عدائية معها ككائنات دونية".
كانت نهاد من الأشد ترقبًا لمخاطر الانتشار الكثيف للكلاب الشاردة في طرابلس ولبنان. إذ سبق أن حذرت جمعيتها بلدية طرابلس منذ ثلاث سنوات من تداعيات تفشي الظاهرة، خصوصًا مع تفاقم أزمة جبل النفايات، الذي يشكل بيئة خصبة لتكاثر الكلاب. كما أن الكثير من العائلات بعد الأزمة رمت كلابها في الشارع، ما ساهم بتكاثرها أيضًا.
قصة asante وجلد النبات
من عالم الحيوانات، تذهب نهاد إلى قصتها في تأسيس "أسنتي"، التي تشغلها حاضرًا وتخطط لفرص تطويرها مستقبلًا.
حين كانت في دبي، فكرت مع صديقتها في الذهاب لعمل تطوعي في تنزانيا شرق أفريقيا. ورغم أن مشروع الرحلة لم يكتمل، لكنها سبقته بالتعلم أونلاين بعض العبارات والكلمات من لغة أهل البلد "السواحيلية"، وهي لغة أهل السواحل في شرق أفريقيا، وتمزج كلماتها بين العربية والسنسكريتية.
ومن الكلمات التي لفتت انتباهها، كانت "asante"، وهي تعني "شكرًا" ويحكى أن أصلها "أحسنتِ". تقول: "شعرت أن رنة الكلمة جاذبة وجميلة، ثم قلت في رأسي أي براند سأصنعها ستكون بهذا الاسم".
بعد عودة نهاد إلى لبنان في العام 2010، بقي المشروع في رأسها، ثم عملت بالهندسة لفترة في بيروت قبل أن تترك وظيفتها.
وبعد التفكير مليًا في مشروعها، سافرت في العام 2012 إلى ميلانو بعد بلوغها 37 عامًا، وتلقت هناك تدريبًا حول صناعة الحقائب، رغم أن خيار ترك الهندسة إلى صناعة الحقائب لم يكن مرغوبًا به من عائلتها.
وحين طرح عليها سؤال جوهري: بماذا ستتميز الحقيبة من صنعك؟ فقالت: سأدخل إليها بعدًا هندسيًا، وقيمة معنوية برسالة موجهة للنساء.
وأمام واجهة فيها مجموعة من حقائب "asante"، شرحت نهاد تفاصيل الأشكال الهندسية بين ما هو مسطح ونافر ومزخرف، وكيفية توظيف خبرتها بتصميم الحقائب وصناعتها.
وهذا المشروع الذي أطلقته منذ العام 2016، استمر حتى العام 2019، وتوقف حينها بفعل الأزمة الاقتصادية، إلى أن أعادت الزخم إليه وحركته منذ العام 2022.
جذبت نهاد فئة واسعة من النساء، وتحديدًا العاملات بمجال التصاميم والهندسة، وهي تسعى إلى توسيع رقعة الزبائن المستهدفات. وتقول إنها تسعى، وبقدراتها وبيئتها الصغيرة، أن تصحح علاقة النساء مع أشيائهن، وكسر نمطية الثقافة الاستهلاكية مقابل تعزيز ثقافة اقتناء ما له معنى ورسالة، وبما يعكس شخصية المرأة من دون اللجوء إلى اقتناء كميات هائلة لا فائدة منها سوى الاستهلاك المتسارع.
ولأن نهاد منذ العام 2011، أصبحت نباتية ولا تأكل أي منتج حيواني، رفضت أن تعيش انفصامًا بصناعة حقائب من جلد الحيوان، فقررت صناعة علامتها الجارية من جلد النبات.
تاريخيًا، وحسب الروايات المنقولة، فإن أصول الجلود النباتيّة تتجذر من أواخر القرن التاسع عشر، وتحديدًا في ألمانيا. وكان خلفيات اللجوء إليه هو النقص الكبير في الموارد الحيوانيّة بعد الحرب، فكانت النباتات أبرز الخيارات البديلة.
لكن مصطلح "الجلد النباتي"، راج عالميًا منذ العام 2010، وكان أبرز المصممين الذين اعتمدوه هي البريطانية ستيلا ماكارتني (Stella McCartney) وهي مصممة أزياء واختصاصية بيئية في مجال صناعة الموضة. ثم أصبح جلد الفطر الأكثر رواجًا في صناعة الموضة النباتية.
عالميًا، بدأت تنتشر ثقافة الجلد النباتي كخيار أخلاقي ومستدام واستجابة لنداءات جمعيات الرفق بالحيوان. كما أن هذا الخيار يستجيب جزئيًا لكل الحملات الداعية للمحافظة على البيئة والمناخ. لا سيما أن عمليات دبغ الجلود تلحق أضرارًا بليغة بالبيئة. وتتحدث أرقام منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة أن صناعة الجلود مسؤولة عن نحو 14% من جميع انبعاثات الدفيئة، كما أن صناعة الجلود الحيوانية يستلزم استعمال مواد كيميائية سامة للبيئة.
وهنا، تستطرد نهاد بالحديث حول سفرها في العام 2018 إلى إيطاليا، وتعرفت هناك على كيفية تصنيع الجلد النباتي، من الفطر والموز والتفاح والذرة وغيرها من قشر الخضار والأعشاب، وتحولها إلى فايبر، ومنها تصنع الجلود النباتية. ومن هناك، بدأت نهاد تعاملها مع شركة إيطاليا لاستيراد الجلد النباتي لعلامتها التجارية، وكانت تصنعه من جذوع الذرة.
وفي أول مرحلة من انطلاقتها حتى سنة 2019، صنعت نهاد بالتعاون مع مشغل تصاميمها نحو 200 حقيبة. ومنذ العام 2022، بدأت تدخل الأشكال الهندسية في حقائبها، وبعض تصاميم الخط العربي بما فيه الخط الكوفي المربع، إضافة إلى تطريز عبارات تحبها للأديب والفيلسوف جلال الدين الرومي، كرسائل داعمة للنساء.
أمل المستقبل
تطمح نهاد أن تكون شاهدة على يوم تعيد فيه كبرى الشركات النظر باستهلاك الجلد الحيواني، وتدرك مخاطره، وأن تتعزز ثقة الناس بالجلد النباتي واستدامته، كما تطمح أن يكون لها مشغلها الخاص مع شبكة من العاملين والعاملات الذين يؤمنون برسالة "asante" كما تقول.
وتتوجه إلى العالم والنساء تحديدًا بالقول: "إن الاستهلاك الكبير قد ينفع الاقتصاد لكنه يضر البيئة حتمًا، ولا بد أن نخلق علاقة مع كل قطعة نشتريها، حتى نحب استعمالها ونخفف من الاستهلاك الكمي".
ومن خلال خبرتها في عالم صناعة الموضة، تجد نهاد أن الماركات الكبيرة تكتسح العالم والسوق بوحشية لدر الأرباح فحسب، من دون أن تكترث لكل ما تقترفه من ضرر بحق البيئة. ناهيك عن جعل الماركات كأداة للدلالة الطبقية والمجتمعية على أكتاف آلاف العمال المحرومين من أبسط حقوقهم. أما كل المنتجات التي تحمل رسالة، فـ"لها هوية أكثر استدامة".
تصعد نهاد سلم مشروعها درجة درجة، وترفض الاستعانة بالبلوغر ومشاهير منصات التواصل الاجتماعي لترويج منتجها، لأنه سلوك لا ينفصل عن الثقافة الاستهلاكية والتسطيحية برأيها. بينما تجد أن كل امرأة في محيطها، مؤثرة، حقيقية وصاحبة قصة جديرة أن تروى للأخريات.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها