الأحد 2023/03/19

آخر تحديث: 11:59 (بيروت)

إيلي بدوان مثال الحرفي الشغوف.. المزدهر بعز "الانهيار"

الأحد 2023/03/19
إيلي بدوان مثال الحرفي الشغوف.. المزدهر بعز "الانهيار"
يشعر مع كل ""تصليحة" أنه يعيد ترميم قطعة فنية (لوسي بارسخيان)
increase حجم الخط decrease

فيما تتعمم القناعات لدى اللبنانيين، بأن أي مهنة يزاولونها في زمن الانهيار الاقتصادي تشكّل هدراً للوقت والطاقات، ما لم يكن مردودها بالدولار "الطازج". ثمة مهن حرفية صغيرة، لم يسترع ازدهارها الاهتمام سابقاً، ولكنها تثير في ظل تمدد الأزمات إلى معظم المهن، إعجاباً بجدواها في تحقيق التوازن المالي بالنسبة لمن يزاولونها، حتى لو لم يكن ازدهارها سبباً كافياً للحؤول دون اندثارها. فالجيل الجديد ليس مهتماً فعلاً بتوارثها.

خدمات 40 عاماً
كان يفترض بهذا التحقيق أن يستطلع واقع مهن انتعشت بسبب الأزمة الاقتصادية. أي أن يتطرق إلى مهارات تقليدية، اتّخذت منحى غير تقليدي في تقديم خدمات تتناسب مع متطلبات المجتمع. خصوصاً في ظل النزعة المستجدة لتخلي اللبنانيين عن عاداتهم الاستهلاكية الحادة، والتي جعلتهم أكثر تمسكاً بمقتنيات زمنها الذي نعموا به.

فالأزمة اللبنانية أيقظت بطبيعة الحال مهناً تستثمر في المهارات المكتسبة، وخصوصاً اليدوية منها. وقد انتعش مجدداً في الفترة الأخيرة الخياط والكندرجي والكهربجي، وغيرهم ممن باتوا عناوين تُقصد لإعادة بعث الحياة في مقتنيات كانت تتحضر للرمي، لولا الحاجة التي خلقتها الأزمة للتمسك بها مجدداً.

إلّا أننا علقنا في قصة واحد من أصحاب هذه المهارات، بما حملته من تميّز، ليس من ناحية نوعية خدمات التصليح التي يقدمها للأحذية والحقائب على أنواعها، والمعاطف وغيرها من الصناعات الجلدية، وإنما في الشغف الذي يظهره صاحب مهنة بسيطة، يتوق لأن يرثها أولاده منه، مفنداً لهم مغرياتها المادية التي يؤكد أنه لا يمكن لأي وظيفة محترمة أن تقارعها.

إيلي بدوان، هو العنوان المعني في مدينة زحلة. لا يمكن لأبناء زحلة والبقاع إلا أن يكونوا قد قصدوه أكثر من مرة خلال أكثر من 40 سنة من امتهانه المصلحة نفسها في المدينة. وهو حالياً الوحيد الذي يقدم خدمة شاملة في مجال تخصصه، ويكاد يكون آخر عنوان لهذه الخدمات.

فوضى "خلاقة"
من قصدوا المكان ولو لمرة واحدة، قد يشتمّوا فوراً، مع قراءة قصته، روائح الأحذية والطلاء والغري، التي تمتزج في ذاكرتهم مع مشهدية من فوضى عارمة، يتسبب بها تكوّم أكياس النايلون المزيلة بأسماء أصحاب الأحذية والحقائب والأحزمة وجاكيتات الجلد المودعة في المكان. وهناك العشرات منها تجتاح درجاً مؤدياً إلى مشغل إيلي في الطابق العلوي لمحله، حيث تعم الفوضى أيضاً، ولا تتسع في الرفوف التي كان يفترض أن تشكل معرضاً لأحذية يصنّعها بنفسه.

هي مشهديّة تؤشر إذاً لانتعاش تختبره هذه المهنة. ومع ذلك يكاد إيلي يكون الوحيد الذي يقدمها في منطقة زحلة وقضائها عموماً. وانطلاقاً من هذا الواقع، لا يتوقع أحد من قاصدي "بدوان" أن يستعيد وديعته منجزة قبل شهر على الأقل من تسليمها ليديه.

انطلق إيلي في مهنته قبل 40 سنة، عندما جذبه عالم صناعة الأحذية. فكان المؤسس الأول لمهنته، التي بدأها حينما كان طالباً، مصمماً ومنفذاً لأحذية بـ"التوصية"، تلبي خصوصاً احتياجات أصحاب المقاسات الخاصة أو الحاجات الخاصة.. إلى أن قرر التفرغ لمهنته في محله الذي أسسه بعمر العشرين.

في المكان نفسه المستأجر منذ ذلك التاريخ، إستعان إيلي ببعض معلمي صناعة الأحذية، الذين كان أصغرهم يكبره بثلاثين عاماً. وبعد أربعين سنة من العمل، لم يبق في المصلحة التي أمضى فيها سنوات شبابه، سواه هو مع واحد من هؤلاء المعلمين، والأخير لا يزال يعمل في مشغل إيلي على رغم إقترابه من سن التسعين.

لذة العمل
كانت فكرة إيلي تقوم على تأسيس مشغل في الطابق العلوي لمحله، ليعرض منتجاته في صالة عرض بالطابق الأرضي. إلا أنه ما إن فتح مؤسسته حتى بدأ الناس يقصدونه لتصليحات في الأحذية والحقائب، حيث كان معظمها حينها يتميز بقيمة البضائع المستوردة المضافة. وهكذا علق إيلي في هذه المهنة فتخلى تدريجياً عن فكرة التصنيع وتفرغ كلياً للتصليح.

سمعته في دقة التنفيذ جعلته مقصداً للزبائن من مختلف أنحاء البقاع. وهو كما يقول لم يخذل أي من زبائنه يوماً. وكان يقبل بكل طلبات التصليح حتى لو كان يعلم بأن بعضها قد يستغرق وقتاً يفوق ما قد يستغرقه تصنيع قطعة جديدة. كان العمل بالنسبة إليه لذة، ينسى الوقت معه، فهو يشعر مع كل ""تصليحة" أنه يعيد ترميم قطعة فنية. وهذا الشغف جعل سمعة إيلي تنتشر في كل أنحاء البقاع.

خلال سنوات من ممارسة المهنة نفسها، نوّع إيلي في خدمات التصليح وتخطت شهرته الأحذية والحقائب. فصارت عبارة "سألت بدوان" تتردد عند الحاجة لأي خدمة تصليح تساهم فها معدات مؤسسته، حيث لم يشعر يوماً بأن هناك مضارباً له في السوق، حتى عندما اختُرق سوق الكندرجية بأصحاب المهارات اليدوية من النازحين السوريين.

يقول إيلي أن بعض الزبائن يخبرونه أن الوضع المعيشي دفعهم للاستعانة بيد عاملة أقل كلفة في بعض الأمور، ولكنهم عندما يعجزون لا مفر لهم من خبرة إيلي. وهذا برأيه أمّن له شبكة أمان "حمت المصلحة من المضاربة"، وجعلته أكثر ثقة في طلب بدل أتعابه.

التكيّف مع الأزمة
وهكذا، بينما بدأت الأزمة الاقتصادية تخنق اللبنانيين، وحتى أكبر رواتب الوظائف لم تعد تكفي أحياناً لبضعة أيام من الشهر، حافظ بدوان كما يقول على مستوى حياة كريمة لعائلته، وضمن أقساط أولاده في جامعاتهم الخاصة والمدارس، بعد أن كان قد اقتنى لكل من إبنيه أيضاً شقة بإسمه، وكل ذلك من مداخيل مهنته التي لم يعرف سواها.

يعترف إيلي بأن انعكاسات الأزمة على مهنته إيجابية، حيث تضاعف الطلب على خدماته كنتيجة لتراجع إمكانيات الناس، تماماً كما حصل مع الخياط الذي دوزن مهنته على قياس حاجة الناس، والكهربجي والسنكري وغيرهم ممن يقدمون خدمة التصليحات. إلا أن الفرق بين إيلي وغيره من الحرفيين كما يقول: "إنني الوحيد الباقي في هذه المهنة، بينما لا يزال هناك عدد أكبر من الخياطين والكهربائيين وغيرهم من الفنيين الذين يزاولون المهنة".

ويشرح إيلي في المقابل أن نوعية البضائع التي صار عليه التعامل معها اختلفت منذ بداية الأزمة. ويقول "في السابق كنا نتعاطى مع أجود الماركات من الأحذية أو الحقائب وسواها، نتعامل معها كقطع فنية ترمم لتحافظ على هيبتها. إلا أن ما يحضره البعض اليوم هو من الأقل جودة، وهناك أمور لا تستحق حتى عناء إصلاحها، لولا إنعدام قدرة أصحابها على إقتناء بديل لها". وهذا برأيه ما ضاعف ساعات عمله، ولكن من دون أن ترتفع مداخيله. إذ أن ارتفاع سعر المواد الأولية المستوردة بمعظمها، دفعه إلى التخفيض من أجرة يده، مراعاة أحياناً لوضع زبائن يضطرون لإصلاح قطعة بالية حتى لا ينعدموا منها. بينما هذه الأجرة كما يشرح هي الركيزة لتسديد مستحقات ثابتة، بعضها تضاعف عشرات المرات، بالإضافة لتأمين المعيشة اللائقة لعائلته. وهذا ما حتم عليه -كما يقول- العمل لساعات أطول، وإنما مع مداخيل أقل.

خطر الاندثار
ولكن كثرة العمل مع ذلك لا تزعج إيلي. لا بل ما يحزنه هو عدم اكتشاف الأجيال الشابة لشبكة الأمان الاجتماعي والاقتصادي الذي تؤمنه المهن اليدوية، رغم الجهد الذي تتطلبه. شارحاً أنه طيلة فترة عمله بمؤسسته، حاول إقناع شباب ممن يسعون إلى وظائف، باستعداده لتعليمهم الحرفة التي يمكنهم أن يتخصصوا في جانب منها على الأقل. ولكن الجيل الجديد كما يقول "لا يرغب بأن يمضي وقتاً مع أحذية ملبوسة، ويعتبر أن هذه المهنة لا تتناسب مع البرستيج الاجتماعي الذي يسعى إليه، بينما في الواقع هذه المهن شريفة، تكسب صاحبها الاحترام ومحبة الناس وخصوصاً عندما يكون الزبون راضياً عن النتيجة".

لا يستبعد إيلي إذاً اندثار مهنته من بعده. فمحاولاته لإقناع حتى أحد أولاده بالتوجه نحو تخصص معين في هذا المجال ما زالت غير مجدية. ومع أن ولديه اكتسبا بعض المهارة في "صنعة" والدهما، فهما مأخوذان حتى الآن بالفرص التي يتوقعونها من شهادات تخصصهما بإدارة الأعمال والمحاسبة. إلا انه بالنسبة لإيلي هذا لن يثنيه عن الاستمرار بمحاولاته في خلق ديمومة لمهنته، ولو عبر تقديمها بقالب عصري.

وحتى يكتشف أحدهم هذا الكنز الذي تختزنه المهن الحرفية، يحاول إيلي أن يبقي وقته في عمله ممتعاً. ولذلك هو لا يشعر بالتعب الذي يقلق منه الشباب عموماً، كما يقول. بل يحاول أن يبقي الشغف مشتعلاً في قلبه تجاه كل ما ينجزه. وهذه الشعلة ربما تكون عاملاً يجذب إليه ليس فقط الزبائن، وإنما الشهرة، التي فتحت له أيضاً أبواب جهات مانحة، وجدت في شغف إيلي ما يستحق الدعم حفاظاً على مهن مندثرة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها