في أروقة ثانويّة راهبات القلبين الأقدسين (SSCC)- البوشريّة السّدّ، يركض مئات الأطفال، بتنظيمٍ وتناغمٍ لافت، يتضاحكون فيما بينهم، يمسكون أيادي وأطراف ملابس بعضهم البعض في سلسلة بشريّة صلبة، يتجمعون في الباحة الخلفيّة، تارةً يصفقون لعناصر الدفاع المدني، الذين حضروا بكافة عتادهم، وطورًا يصرخون فزعًا من الدخان الذي انبعث من أحد الشبابيك، مؤدين دورهم في "البروفا" التّحضيريّة أو "التمثيل" بغاية التّدريب، بكل التزامٍ ووعيٍّ وإدراك لمعنى الكارثة، وأساليب تفاديها.
وهذا بالضبط ما أرادته إدارة الثانويّة، أي إشراك طلابها عن كثب بما يعتمل في المشهد اللّبنانيّ والإقليميّ، وتحضيرهم لأي طارئ، في إطار حملتها التّوعويّة، ولتطبيق خطة الطوارئ التّي حضرتها بالتّعاون مع المديريّة العامة للدفاع المدنيّ، لمدّة أسبوعين، منظمةً "محاكاة" ميدانيّة لسيناريو الحرب، في مناورةٍ وخطة إخلاء انتهت إلى تلقين مئات الطلاب، غايةً تربويّة أساسيّة وضروريّة في الظرف الحاليّ.
خطة إخلاء ومناورة
عند الحاديّة عشر و15 دقيقة من صباح يوم الجمعة 17 تشرين الثاني الجاري، قُرع الجرس، وما هي إلا لحظات حتّى انبثق دُخان اصطناعيّ من أحد الصفوف، ليتبعه وابلٌ من صرخات الطلاب، الذين سرعان ما هرعوا إلى المنافذ الأساسيّة، بأيدي متشابكة، تقودهم معلمات الصفوف، بكل انضباط، وبخطوات متناسقة وبمدّةٍ زمنيّة لم تستغرق أكثر من دقيقتين، كان جميع الطلاب والهيئة التّربويّة والإداريّة، قد وقفوا في الباحة الخلفيّة المفتوحة للثانويّة، محملقين بخطوط الدخان المنبعثة في الهواء.
المشهد المهيب، لم يكتمل سوى بأصوات صفارات الإنذار وأبواق سيارات الإسعاف والإطفاء التّابعة للدفاع المدني، التّي حضرت بعد دقيقة، مقتحمةً الباحة، لينزل منها رجال الإطفاء والمسعفين، مادين خراطيم المياه إلى داخل القاعات الدراسيّة، فيما انتشلوا "الجرحى" من الطلاب والأساتذة الذين تطوعوا لتمثيل الدور، تباعًا، وفي كل مرّةٍ كان العناصر يخرجون حاملين أحدى الجرحى أكان بالحاملة أو بالكرسيّ المتحرك، كان الطلاب الذين يشاهدون العمليّة، يصفقون بكل حماسةٍ، واثقين أنهم تعلموا الدرس، وأن أصدقاءهم قد نجوا من الاعتداء الذي طال مدرستهم. فيما كان أفراد الهيئة التّعليميّة والإداريّة، يجولون بين القاعات للتأكد من الإخلاء التّام، كما لو أنّهم يُنفذون الخطة مؤدين دورهم الإنسانيّ والمهنيّ، في تنشئة وحماية طلابهم قبل أنفسهم.
لتنتهي عمليّة الإخلاء، على تحقيق فعليّ وميدانيّ "للمناورة" التّي تمّ الاصطلاح على تسميتها والتّركيز على هذه التّسميّة في النشاط التدريبيّ، في دلالةٍ على أن التّمرين الذي أُجري لكافة الطلاب ومن صفوف الحضانة حتّى المراحل النهائيّة من الثانويّة العامة، قد أحرز هدفًا تعليميًّا وتربويًّا، وبات عملًا محسوبًا لإحباط الخصم (أكان قصفًا أو كارثة طبيعيّة)، واكتساب طُرق جديدة للدفاع عن النفس، وتعليم الكوادر البشريّة وطلاب المدرسة، رباطة الجأش في الظروف الاستثنائيّة القاهرة.
الغاية من التّدريب
وأما عن الغاية الأساسيّة لاعتماد هذا التّمرين، وخصوصًا لطلاب المدارس، فتُشير مديرة ثانويّة راهبات القلبين الأقدسين، الأخت راغدة الأسمر، في حديثها إلى "المدن" بالقول: "هذا التّدريب انبثق من مسؤوليتنا التّي يجب تحملها في الظرف الحاليّ، وتدرج سيناريو توسع الحرب إلى الداخل اللّبنانيّ كفرضيّة، نتمنى عدم حصولها، وهذا ما دفعنا لتحضير خطة استباقيّة ومناورة لنكون جاهزين لوجستيًّا في أي سيناريو أكان تهديدًا أمنيًّا أم كارثة طبيعيّة أو حريقاً". مُضيفة: "وقد تواصلنا مع المديريّة العامة للدفاع المدنيّ – قسم التّدريب، وتلقت طلبنا بكل رحابة صدر، لإقامة حلقات إرشاد لكل الطلاب والهيئات التّعليميّة والإداريّة، وإنشاء خليّة أزمة".
ولدى تساؤل "المدن" عن مدى ترحيب وتجاوب الأهالي، مع فكرة تعريض أولادهم لبرنامج المحاكاة هذه، وإذا كان قد بثّ الذعر في صفوفهم، فأجابت الأسمر أن الأهالي قد تجاوبوا بصورةٍ لافتة مع خطتهم. بل كانوا من المؤيدين لها بوصفها ضرورة ملّحة، قائلةً: "اعتمدنا استراتيجيّة تربويّة في تحضير الطلاب بمساعدة الدفاع المدنيّ، وواقع الحال أن كل الطلاب يعيشون ضمن المجتمع المتوجس والقلق من التّهديد والقلاقل الأمنيّة. وبهذا، نحن نبثّ الطمأنينة في صدورهم لا العكس، بجعلهم يختبرون أي سيناريو ويتعلمون كيفيّة التّعاطي معه، بل قام عدد من الطلاب وحسب ما وردنا بشرح ما تدربوا عليه لأهاليهم وأصدقائهم، أي أن وعيًّا ومسؤوليةً قد اكتسبوها من هذا الدور".
وختمت الأخت الأسمر بالقول: "أنصح مختلف الهيئات التّربويّة باعتماد هذا التّدريب الضروريّ، وحتّى في حالات السّلم، لتمكين كافة الطلاب من بديهيات الدفاع عن النفس ومواجهة كل الظروف برباطة جأش وعزيمة".
هذا النموذج لم يُطبق وحسب في ثانويّة راهبات القلبين الأقدسين، بل طُبق بعددٍ لا يُستهان به من المدارس -قلّة قليلة منها في الضاحيّة الجنوبيّة المُهددة- التّي انتبهت أن المسؤوليّة التّربويّة لا تنحصر وحسب بالبرامج العلميّة، بل وكذلك في مواكبة كل التّطورات الأمنيّة والسّياسيّة، لحدٍّ معقول.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها