الأحد 2023/01/29

آخر تحديث: 14:12 (بيروت)

بعد خروج موقوفي المرفأ: المعتقلون يهددون بالانتحار الجماعي

الأحد 2023/01/29
increase حجم الخط decrease

ليس بإمكاننا، وإن حاولنا جاهدين الغوص في التاريخ اللبناني المجرد، استذكار مرة واحدة كان فيها القانون سيدًا يعلو ولا يُعلى عليه، صمام أمان للمواطن، سلطة حكيمة ونافذة بالمطلق. ولمّا كان هذا الشرخ العظيم بين مفهوم القانون وواقع تطبيقه هنا في بلد العجائب هذا خبرًا قديمًا ما عاد يجتذب الكثير من المتابعين بشكلٍ أو بآخر، كَبِر ليستحيل هاوية ينسحق فيها كل طالب حقٍ أو عدالة. وعليه صار من الطبيعي في دولة اللاقانون والتسيب أن ترى مثلاً قاضياً يفرج عن موقوفين قيد التحقيق في ملابسات أكبر انفجار غير نووي في العالم الحديث، أو ترى سلطة حاكمة تغتصب حقوق مواطنيها عنوةً، متلطيةً خلف الخطر من الاقتتال الأهلي، أو حتّى مساجين يلفون حول رقابهم حبل المشنقة مستبقين الحكم، محتجين على تأخر العدالة. فالعدالة ضالة المواطن اللبناني اليوم ومطلبه الأول.

العدالة الاستنسابية
مساء أمس السبت 28 كانون الثاني، سُربت بعض المقاطع المصورة لعدد من النزلاء في سجن رومية المركزي، يهددون فيها القضاء اللبناني بالانتحار الجماعي، إذا لم يباشر في عمله، مستأنفًا جلساتهم والتحقيق معهم، ومحاكمتهم بصورة قانونية ولائقة، مستنكرين العدالة الاستنسابية، متمثلةً بقرارات النائب العام التمييزي، القاضي غسان عويدات، والتّي قضت بإخلاء سبيل الموقوفين قيد التحقيق بملف تفجير المرفأ، منذ حوالى الأربعة أيام. والتّي أفرزت بدورها خضة واسعة في صفوف المواطنين كما المعنيين في هذا الملف من أهالي الضحايا والحقوقيين، تطورت لاحقًا لتحركات شعبية في الشارع، ومعارك سياسية وقضائية حامية. وتساءل السجناء في هذه المقاطع المصورة التّي حصلت عليها "المدن"، عن جدوى القضاء اليوم، هذا القضاء الذي اعتكف 7 أشهر من دون الالتفات لحقوقهم، فيما كان قد راكم عبر السنوات الماضية فساده الفضائحي وتحامله الممنهج وتسويفه المستمر، ولم يقم بإصدار أحكامه على غالبيتهم، بل رماهم في سجن رومية المكتظ والغارق في الأزمات.

وتظهر هذه المقاطع السجناء يجلسون مصطفين إلى جانب بعضهم البعض، ويلفون حبال المشانق المتمثلة بقطع قماشية حول رقابهم، فيما يقول واحدٌ منهم: "لا أزال موقوفًا منذ 2014، ولم أخضع لأي استجواب إلى الآن، بالرغم من حضوري لـ30 جلسة استجواب في المحكمة العسكرية. كيف للموقوفين في قضية تفجير المرفأ أن يطلق سراحهم بموجب قرار سياسي، وهم متهمون بأكبر جريمة في لبنان، ونحن لا نزال في أقبية السجون نعاني من الأمراض والجوع، ولم نخضع لأي محاكمات للآن؟ ولماذا السجون فارغة منهم ومزدحمة بنا، نحن الذين لم نرتكب كما ارتكبوا هم وقضينا سنين في السجن منفذين الأحكام القضائية بحقنا؟" فيما يشير سجين آخر: "مطلبنا أن نخرج من السجن كما خرج غيرنا، نحن لسنا إرهابيين، هؤلاء السياسيون الذين أخرجوا الموقوفين المتورطين بقضية المرفأ هم الإرهابيون الحقيقيون".

واقع السجون
اكتظاظ مقيت بنسبة إشغال تتجاوز 380 بالمئة، زنازين تغص بنزلائها، أمراض جرثومية وجلدية منتشرة، طعام ومياه ملوثة، لا طبابة، لا كهرباء، وما يتجاوز 85  بالمئة من النزلاء غير محكومين حتى اليوم؛ ضغط جسيم على كاهل القوى الأمنية المنهارة أصلاً، تحامل سياسي، وأخيرًا اعتكاف قضائي أطاح بأي نيّة لتخفيف هول الأزمة المحدقة، هو واقع السجون المزري اليوم. وبين مناشدات أهالي الموقوفين والجمعيات الحقوقية والتخوف الرسمي من انفجار هذه الأزمة، والمطالبات المستمرة بتخفيض السنة السجنية لثلاث سنوات، فضلاً عن العفو العام، يعيش نزلاء السجون الخمسة وعشرين على امتداد الأراضي اللبنانية أفظع أشكال الإهمال والمظلومية.

وتشير مصادر "المدن" المتابعة أن ردّ الفعل هذا مرده الأسباب آنفة الذكر، بالإضافة لكون السّلطة اللبنانية قد وعدتهم مرارًا بإيجاد حلول ولم تقم بتنفيذها للآن. عدد من قوانين العفو العام صدرت لتنام لاحقًا في أدراج القضاء اللبناني، بالرغم من الواقع المزري والمستفحل الذي نجم عنه  وفاة 33 سجيناً في غضون العام الماضي وحده. هذا وناهيك بالأمراض التّي يعانون منها، وتأجيل الجلسات حتّى بعد الاعتكاف القضائي. ويقوم المساجين بردود الفعل هذا بصورة دورية، فتارة يحرقون أنفسهم كما فعلو منذ شهرين (راجع "المدن")، وتارةً أخرى يقومون بالانتحار (راجع "المدن")، ومؤخرًا راجت محاولات إيذاء النفس عبر استخدام شفرات حادة لجرح أنفسهم كما حصل في مبنى الجيم للسجين علي العرب، والذي نقل إثر إصابته إلى المشفى، وصولاً إلى تعليق المشانق.

وغالبية هؤلاء تنتشر في صفوفهم الأوبئة والأمراض، كالكورونا والتيفوئيد والكوليرا وصولاً لمرض السل واليرقان، المحجور بسببه عدد من المساجين في سجن القبة ورومية. وفي هذا السّياق تصف رائدة الصلح، نائبة رئيس جمعية لجان أهالي الموقوفين، في حديثها مع "المدن" الحلول التّي يمكن اتخاذها اليوم لتدارك تداعيات هذه الأزمة قائلة: "الحلول السريعة هي إقرار العفو العام. وهذا ما يحتاج توافقاً سياسياً كبيراً وخطواته الواقعية معقدة، يليها من الخطوات إكمال العمل بالخطوة الإسعافية التّي قدمها وزير الداخلية وهي تخفيض السنة السجنية 6 أشهر، وتحديد المؤبد 25 سنة، والإعدام 30 سنة، على أن يشمل التخفيض الجميع. وبهذا نكون خففنا الاكتظاظ والعبء الملقى على كل من السجناء والقوى الأمنية". وأضافت: "يرافق هذا الأمر لجان قضائية مراقبة دوليًا تنجز ملفات الموقوفين بعدل ومن دون تحيز أو كيدية سياسية او انتقام طائفي، أما العفو العام الشامل فهو هدفنا بلا شكّ".

ووسط النزاع القضائي الخطير الحالي، وتدفق هذا الكم الكبير من الأحداث، والمناكدات التّي طالت جميع المواطنين بلا استثناء، فإن أعباء الأزمة هذه تقع بجزء كبير منها على كاهل القضاء المولج بإصدار الأحكام، فضلاً عن السلطات اللبنانية التّي تتقاعس عن إيلاء هذا الملف الاهتمام اللازم أو نقل إدارات السجون كحد أدنى إلى وزارة العدل المسؤولة عن المحاكم، ما يقد يسهم بتحسين التواصل وتخفيف حدّة الاكتظاظ، كما ولا يمكن حصرها فقط بالقوى الأمنية المأزومة والمنهارة.. وبالرغم من كل الادعاءات التّي تجزم بأن مشكلة السجون هي مشكلة مركبة، فإن التقصير الرسمي بحقها خير دليل على التخاذل غير المبرر، فإن كانت السجون هي مراكز لتأهيل نزلائها بعقوبات عادلة ومعبرة، فإنها في لبنان باتت مرتعًا للظلم.. والموت أحياناً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها