الإثنين 2023/01/23

آخر تحديث: 14:37 (بيروت)

مايز الأدهمي مالك "الإنشاء" وحافظ تاريخ طرابلس وأسرار ساستها

الإثنين 2023/01/23
مايز الأدهمي مالك "الإنشاء" وحافظ تاريخ طرابلس وأسرار ساستها
تعود جريدة "الإنشاء" إلى الصدور في طرابلس (المدن)
increase حجم الخط decrease
تسكن طرابلس في قسمات وجه مايز الأدهمي. فحبّه لمدينته ليس عاطفيًا وحسب، بل "هو التزام أخلاقي"، كما يقول. وهكذا، امتد هذا الحبّ من حنايا قلبه إلى سمات طبعت إيماءاته ورخامة صوته. حب مديد ومتعب يظهر في الانتفاخ الطفيف من خلف نظارات عينيه اللتين سهرتا عقودًا في سبيل الكتابة حول قضاياها. هو حبّ تحول إلى مهنة وهمّ وانشغال يومي وسبب وجودي للاستمرار بما يتقنه ويعرفه.  

يتجاوز مايز الأدهمي صفته كصحافي طرابلسي ألمعي إلى حافظٍ وأمينٍ على تاريخ غني بالأخبار والأحداث والقضايا، أرشفتها "الإنشاء" وعالجتها منذ صدورها كأول جريدة يومية طرابلسية في 28 تشرين الأول 1947 على يد والده الصحافي محمود الأدهمي.  

إلى "إنشاء" طرابلس  
في إحدى زوايا ساحة الكورة في طرابلس، تقدمنا نحو بوابة حديدية كبيرة، تفصلنا عن أخرى مصنوعة من الخشب العتيق ويُلصق على زجاجها يافطة صغيرة مدونة بعبارة: "مركز محمود الأدهمي الثقافي". نستنشق رائحة الورق على بعد أمتار قليلة، ثم نجد أنفسنا أمام ثلاث طبقات من الكتب وقصاصات الجرائد ومجلدات أرشيفية للصور والأحداث الطرابلسية وبعض ماكينات الطباعة القديمة. كما تطالعنا صورة محمود الأدهمي ممهورة ببيت شعري، كحارس روحي على ما ورثه مايز الأدهمي البالغ 77 عامًا.

محمود الأدهمي مؤسس "الإنشاء"
 

وقبل أن يناديني الأستاذ مايز –كما نخاطبه– للتوجه إلى مكتبه العلوي، الذي تعبث فيه فوضى الأوراق والكتب، تذكرت حين نُشرت لي أول مقالة في العام 2014، كانت بجريدة "الإنشاء" تحت عنوان "سارق الأضواء" عن الناقد الأدبي عبد الفتاح كيليطو. استرجع مشاعر الاعتزاز في تلك اللحظة، وكأنني حظيت باعتراف لمشروعية الانطلاق برحلتي الصحافية. فهذه الجريدة الطرابلسية المحلية، شكلت مساحة حرّة لعدد من الصحافيين الشباب في طرابلس ومحيطها، الذين انشغلوا بإنجاز التحقيقات المحلية والكتابة بملاحقها، وأمسكت بأيديهم إلى أن حلقوا بعوالمهم المهنية.  

وراهنًا، تقشع "الإنشاء" الغبار للصدور مجددًا هذا الأسبوع، بعد توقفها القسري منذ نحو عامين بسبب الأوضاع الاقتصادية والاضطرابات التي حلّت بالمدينة.  

وهنا، كان لـ"المدن" لقاء مع مايز الأدهمي، استرجاعًا لسيرته المتجذرة في طرابلس، وأملًا بتفكيك جزئي لواقع المدينة من عيون "الإنشاء" التي واكبت أحداثها، وكانت شهادة على مسيرة محفوفة بالأطماع والانتهازية لمعظم قياداتها.  

سيرة الأدهمي  
ولد مايز الأدهمي في منطقة الحدادين سنة 1946، وعاش مختلف محطات حياته في طرابلس، باستثناء المرحلة التي توجه فيها إلى جامعة القاهرة، حيث درس الصحافة هناك لمدة خمس سنوات، بسبب عدم وجود كلية للصحافة حينذاك في لبنان، وتخرج سنة 1973، وكانت الصحافة في جامعة القاهرة قسمًا من كلية الآداب والعلوم الإنسانية.  

يصف الرجل المرحلة الجامعية للصحافي بعملية تكثيف للمعلومات، باستثناء بعض تقنيات أسرار المهنة. فـ"تعلمت بجامعة القاهرة طرائق مختلفة في الطباعة والكتابة، وتصميم الصفحات وإخراج الجرائد".  

يعود الأدهمي إلى عائلته الصغيرة واصفًا إياها بالأسرة المتماسكة، "عروبتها كانت أولوية، تتعامل مع الناس بوضوح قيمي وأخلاقي بلا تلاعب. تهتم بأهل طرابلس وتغار عليهم، وهذا ما تعلمته من أبي محمود الأدهمي".  

وحين نسأل عن تعريفه لمحمود الأدهمي، يصمت دقيقة، تدمعه عينه، ويتغلب على مشاعره بالقول: "سبق عصره". لقد كان ذلك الرجل المناضل الذي تعرض لمحاولتي اغتيال جراء عمله الصحافي في "الإنشاء"، "سابقًا لعصره في كل شيء". فهو لم يكمل تعليمه، ترك المدرسة والجامعة بعد أول سنة حقوق بجامعة دمشق وتخرج من الثانوية العامة في بانياس. انغمس محمود الأدهمي في الثلاثينات والأربعينات بالعمل الوطني مع أطرف بالساحة اللبنانية والعربية، وهو ما دفعه لإصدار الجريدة التي افتتحها بأول عدد سنة 1947، بمانشيت موقعة باسمه تحت عنوان "عهدُنا". و"أطلق وعدًا بالالتزام بالنهج العروبي، وأن هدف نشره للجريدة ليس زيادة عدد الصحف، بل خدمة للقضايا الطرابلسية والوطنية التي يؤمن بها".  

حين عاد مايز الأدهمي من القاهرة إلى لبنان، كان ينوي السفر مجددًا لإكمال مرحلة الدكتوراه. لكن والده قال له سنة 1973: "حان دوري للسفر، وأنت ستجلس في الجريدة".  

توفي محمود الأدهمي سنة 1979، وكان مايز سكرتيرًا للتحرير، واستلم رئاسة تحرير الجريدة منذ العام 1982 بعد سفر شقيقه. 

العدد الأول من "الإنشاء"


ويقول إن جريدته واكبت مختلف الصراعات السياسية المحتدمة، وإراقة الدماء، وتحديدًا في طرابلس، وكانت سباقة في معالجة قضايا المدينة، وغطت الفيضان وبعده الزلزال الذي ضربها سنة 1956.  

خلال الحرب الأهلية، اضطرت عائلة الأدهمي إلى التوقف عن إصدار الجريدة لفترات وجيزة ومتقطعة، وكان مايز يسافر برًا إلى الشام عن طريق الهرمل لشراء الحبر وبعض المواد الأولية التي شحت من الأسواق. يضيف: "باستثناء الورق كنا نؤمنه من بيروت وبتكاليف عالية بسبب "الضرائب" التي كان يفرضها حاجز البربارة الشهير".  

وما يدفعه لإصدار الجريدة ولو أسبوعيًا بعد توقفها منذ نيسان 2021، "لأن عملي الصحافي التزام أخلاقي، كما لا يجوز أن تكون مدينة مثل طرابلس يبلغ الحراك فيها يوميًا حوالى مليون نسمة، بلا صحيفة محلية". ويقول: "أعود تعبيرًا عن رأي، وعلى الأقل للتعبير الذي يمثل شريحة من الناس، وتاركًا لكل من عمل معي أن يعبروا عن آرائهم، ضد الطبقة الحاكمة، لا سيما في طرابلس".  

طرابلس بعيون الأدهمي  
يصف الأدهمي طرابلس بأروع المدن لأنها "مدينة أصيلة، ويتسم أهلها بالطيبة والأصالة. وكل ما يحكى فيها عن جرائم وعمليات سرقة وحوادث أمنية، ليست من أصلها وتاريخ أهلها، بل نتيجة حالات "الجلب" على المدينة"، وفق تعبيره.  

فما أكثر الأحداث التي شكلت نقطة تحول مصيري في المدينة؟ يجيب الأدهمي: "اغتيال رشيد كرامي. قبل استشهاده، كانت المدينة "خيمة" وكان رشيد عمودها، وحين قتلوه سقط ثبات المدينة إلى غير رجعة".  

ومن خلال مواكبته، يعتبر الأدهمي أن مجيء الراحل عمر كرامي، ورغم استقطابه لجو معين في طرابلس لم يكن مثل رشيد، "بسبب تصرفاته الحدية والعصبية التي ألحقت الضرر أكثر من الفائدة". يضيف: "استطاع عمر كرامي كسياسي أن يمسك مفاصل معينة في أوقات عصيبة، وأن يكون "شبه عمود" للمدينة يحميها ويحفظها. ولكن بعض تصرفاته، أضرت بطرابلس، وأقصي عن المراكز بسبب مواقفه الخاصة به".  

أما اليوم، فـ"طرابلس بلا عمود وزعيم وقائد، وبلا صاحب شخصية فذّة. إنها متروكة ووحيدة بلا سياسي حقيقي. وكل السياسيين الذين جاءوا في آخر عشرين سنة، وعملوا نواباً ووزراء، يمكن وصفهم بجماعة المصالح الذين لا يفكرون بطرابلس"، يقول الأدهمي.  

الأدهمي عن قيادات طرابلس 
نسأل الأدهمي عن رأيه بزعامة رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في طرابلس. فيسارع مقاطعتنا بالقول: "ميقاتي ليس زعيمًا، وليس مسؤولًا سياسيًا. هو عبارة عن قائد من قيادات الساحة الحالية، كأنه رئيس نقابة أو رئيس جمعية".  

يجد الأدهمي أن ميقاتي توفرت له فرصًا كثيرة حتى يكتسب صفة الزعامة بمدينته. إذ ترأس ثلاث حكومات، وقبلها كان وزيرًا، كما كان نائبًا وحصد بانتخابات 2018، نحو 21 ألف صوت تفضيلي. لكنه "لا يريد ولا يستطيع أن يكون زعيمًا. فهو رجل مادي. وحين يكون أمام خياري مصلحة طرابلس أم مصلحته يختار الأخيرة حكمًا". ويردف الأدهمي: "ميقاتي بالمختصر: سياسي تاجر ورجل أعمال ناجح".  

وحول الوزير الأسبق محمد الصفدي، يجد الأدهمي أن الآمال في طرابلس كانت كبيرة عليه، "لكنه تغير كثيرًا ولم يستطع صناعة حالة سياسية في طرابلس، وربما لوفاة ابنه سبب كبير. لقد كان واعدًا ولم يعد كذلك".  

ويتأسف عند ذكر النائب أشرف ريفي، فـ"كان واعدًا بالمراكز الدنيا، ولكن حين وصل لمراكز عليا لم يعد واعدًا. فهو لا يملك سوى خطابه الشعبوي ضد حزب الله وإيران، بينما لم يستطع فعل شيء لطرابلس على الساحة الوطنية".  

وحول النائب فيصل كرامي، يذكّر الأدهمي أن الوريث الحقيقي يسترجع تاريخ عائلته بقدراته لا بقدرات عمه ووالده. ويقول: "كرامي الابن كان واعدًا لو أحسن العمل لأجل طرابلس، خصوصًا أنها تحفظ لرشيد وعمر كرامي الكثير من الأمور".  

يُعرج الأدهمي على علاقة طرابلس بآل الحريري، معتبرًا أنها تأملت الكثير من الراحل رفيق الحريري، لكنها لم تنل منه شيئًا، بسبب تركيزه على بيروت أو نتيجة الوجود السوري في تلك الحقبة، "لكن سلوكه الذي أفاد بيروت بمراحل معينة عزز المركزية التي أضرت طرابلس".  

يرفض الأدهمي المقارنة بين الحريري الأب وسعد الابن. فـ"رفيق كان ذكيًا، أما سعد لم يحسن إدارة شيء. والجميع استغل نقاط ضعفه".  

يجد الأدهمي في طرابلس تكثيفًا لواقع السنة عمومًا في لبنان. فـ"نحن الوعاء الأكبر الذي يضم كل الطوائف وعلينا استيعاب الجميع باعتبارنا أمة". يضيف الأدهمي قائلًا: "لولا الدور الإسلامي لما قام لبنان الكبير مع كل ما فعله غورو. ولبنان من دون استقامة السنة يسقط. وهذا واقعه حاليًا للأسف".  

ويعتبر أن قيادات السنة هي من أوصلتهم لهذا الدرك، نتيجة انغماسهم بمنظومة السلطة والمصالح، والتراخي بالتعاطي مع الآخرين لطمأنتهم وإشعارهم بالأمان. 

آمال الأدهمي  
رغم الواقع المرير، يتفاءل الأدهمي بقيامة طرابلس ولبنان عمومًا ولو بعد حين. ويحمّل المجالس البلدية التي تعاقبت على طرابلس جزءًا من مسؤولية انتكاساتها. ويقول: "أفضل مجلس بلدي شهدته المدينة كان بعهد سامي منقارة من 1992 حتى 1998. لأنه كان أقدر إداري جاء إلى البلدية، وكان يعرف الشاردة والواردة، رغم الاعتراض على سلوكه من البعض، كان حازما". ويقول أن أزمة معظم رؤساء البلدية في طرابلس تاريخيًا، كانت بسعيهم لمحاباة السياسيين وإدارة مصالحهم وعلاقاتهم على حساب مصلحة المدينة، "بالرغم من وجود موظفين أكفاء يمسكون بمفاصل معينة داخل البلدية".  

انشغالات الأدهمي  
ينهمك الأدهمي راهنًا بتنظيم أرشيف "الإنشاء" الذي يوصف بالكنز للذاكرة الجماعية في طرابلس. ومنذ أربع سنوات بدأ تصويره، وأنهى أعداد 25 عاماً، ويحاول حفظها إلكترونيًا. ويتحدث عن امتلاكه لكم هائل من آلاف الصور، لكن مشكلة معظمها بلا توصيف، وهو ما يسعى لاسترجاعه.  

ويتوجه إلى الصحافيين الشباب بنصيحة مفادها: إن تركيزكم على الثقافة العامة وتغذيتها بالقراءات العميقة هو الأهم أولًا، وأدعوكم إلى ضرورة الحفاظ على التواضع ثانيًا، كمعبر لحسن التواصل مع الناس، وعدم الاستسهال بالعمل ثالثًا، بعدما تحول إلى مرض يتفشى بالعمل الصحافي في لبنان.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها