الأحد 2023/01/22

آخر تحديث: 12:05 (بيروت)

ساحة شتورا: تجار دولار وشحّاذون وسائقون في جمهورية الانحطاط

الأحد 2023/01/22
ساحة شتورا: تجار دولار وشحّاذون وسائقون في جمهورية الانحطاط
ساحة تصحو باكراَ جداً ولا تغفو إلّا متأخرة (المدن)
increase حجم الخط decrease

في كل مرة يتحرك فيها سعر صرف الدولار صعوداً أو انخفاضاً، تتوجّه الأنظار إلى ساحة شتورا. هذه الساحة التي اقترنت فيها نشأة تجمع الصرّافين مع انتعاش حركة السوّاح العرب والخليجيين باتجاه لبنان، منذ انتهاء حروبه الأهلية.. باتت منذ بداية الأزمة الاقتصادية الأخيرة ساحة للتناقضات، تعكس الهوة الاجتماعية المتفاقمة بين الطبقات المعيشية للبنانيين. وبالتالي، أصبحت ساحة تتسع للأطماع، المضاربات، وحتى المؤامرات أحياناً. وليس ذلك فقط بين تجار الدولار، مرخصين وغير مرخصين، أو حتى بينهم وبين حملة الشنطة المتجولين، وإنما أيضاً بين كل مكونات هذه الساحة، من سائقي "التاكسي" و"الفانات"، قبل أن ينضم إليهم مؤخراً أيضاً "التوك توك".. وبين المتسولين، وبائعي العلكة على الأرصفة والقهوة في "الكيوسكات" (الأكشاك العشوائية).. وربما أيضاً بين المتجولين من حاملي شنط الساعات أو المتنقلين بعربات غزل البنات والكعك، حتى لو كان لمكوّن الساحة الأخير مهمة تتجاوز جمع الليرات إلى جمع المعلومات كما يعتقد البعض.

الفوضى المسيطرة
لا شك أن هذا التنوع "الوظيفي" الذي تختزنه ساحة شتورا، لما وجد، لو لم يكن يدور كلّه حول الدولار. غير أن ازدهار كل مكوّن منه، أمّن لهذه الساحة مشهدية مختلفة عن باقي نواحي البقاع، وجعل منها ساحة تصحو باكراَ جداً ولا تغفو إلّا متأخرة.

لا يقبل هذا النمط اليومي لساحة شتورا التنظيم. بل يكمن سر نجاحه في الفوضى المسيطرة، وحتى بالنسبة لحركة السير. حيث لا خط سير واضحاً لحركة السيارات، والتزاحم بينها وبين مجتازي الطرقات يكاد يكون عادياً. ما يفرض على سالكها أن يؤقلم سلوكياته مع هوية الساحة ومتطلبات مغادرتها بسلام.

منذ بدء ارتفاع سعر الدولار، اكتسب الكثير من زبائن تجمع الصرافين في الساحة، مهارة المفاصلة. وتكونت لديهم قناعة راسخة بعدم التحوّل إلى زبون دائم لدى أي من الصرافين. فالخيارات واسعة وشاسعة بين دكاكينهم التي تبيع الدولار. والتنقل بينها سهل إلى أن يوفّق كل منهم بالسعر الأقرب إلى "التطبيقات" التي باتت تحدد سعر الدولار. والمهم بالنسبة للزبون الفردي أن يغادر المكان مع انطباع بأنه لم يُنهب، وحتى ولو بعشرة آلاف ليرة. ربما لقناعة مسبقة لدى هؤلاء بأن هذه الهوة بين السعر الذي حصلوا عليه وسعر التطبيقات ستتوسع سريعاً ما إن يبدأ العرض والطلب.

أكياس الأموال والمتسولون
إلا أن ما ينطبق على حامل الدولار الفردي، لا يسري على كبار زبائن الساحة من تجار وسماسرة وحتى مصرفيين أو من ينوب عنهم من عملاء. فهؤلاء وفقاً لمصادر الساحة، هم من يحددون سعر الصرف صعوداً وهبوطاً، وبالتالي عليهم يعتمد الصرّافون لتجنب تداعيات المفاجآت في السوق. معظمهم يحضر إلى الساحة مع أحجام كبيرة من الكتل النقدية، تتخطى أرقامها أحياناً المليار ليرة لبنانية. وبعض كمياتها تطرح "مجلتنة" أي أنها طبعة حديثة في السوق، تصل مباشرة من مصرف لبنان، وبعض الآخر يحمل بحقائب النايلون التي يستخدمها اللبنانيون عادة لجمع نفاياتهم. تلك الأكياس التي لم يصدّق أحد من اللبنانيين في بداية الأزمة أنها ستتحول إلى وسيلة لحمل الليرات اللبنانية بعد أن فقدت قيمتها.

عند الحديث عن هذه الفئة من المتداولين بالكتل النقدية، قد يحلو للبعض تخيّل سوق المضاربات في كبرى البورصات العالمية، ومظاهر مقتحمي أسواقها ببذلاتهم الأنيقة ورائحة العطر التي تفوح منها. إلا أن هذا الخيال سرعان ما يتبدد أمام نزعة من يتعاملون بالعملة محلياً للتخفي وراء التواضع في المظهر، حتى لا يجذبوا الأنظار من قد يتربصونهم بالسرقات. حتى لو تحولت سياراتهم الفارهة إلى إشارة كافية، تستقطب المتسولين الذين يغطّون عليها كما لو أنه قفير ينتج العسل.

وهنا أيضا تتجلى مظاهر التفاوت الاجتماعي الذي تحتضنه ساحة شتورا. تنغل الساحة بالأطفال والنساء من مختلف الأعمار، بثيابهم الرثة، وبشراتهم التي حرقتها الشمس واجتاحها غبار الطرقات. يلصقون أنوفهم على نوافذ السيارات، مغدقين من خلفها بدعاءات قد لا يَستحسنها المتلقي أحياناً. ويتناوبون في المهمة بين واحد وآخر، إلى أن يمل حامل المال في النهاية، ويقرر أن يحسن لواحد منهم فقط، يكون صاحب الحظ الذي حصد جهود كل من سبقوه. هي حركة غير متفق عليها بين المتسولين، الذين تسود بينهم أيضاً المضاربات، وأحياناً كما يسمونها هم "النجاسة" والأحقاد. فلا ينجو صغارهم من تنمر الأكبر سناً، وأحياناً الاعتداء والضرب، مع أن السوق واسع ويسوده الكرم، كما يؤكد الصرافون، الذين يشهدون بدورهم أنهم في كل ليلة يستبدلون "الفراطة" التي جمعها المتسولون بمئات آلاف الليرات، حيث تتراوح غلة بعضهم منذ تدهور قيمة الليرة من 500 ألف إلى مليون ليرة أحياناً، وخصوصاً عندما يكون المحسن من خارج البلد.

طبقات وسائل النقل
ولكن إذا كان التسوّل مهمة يسيطر عليها السيدات والأطفال، فللرجال حضور طاغ على الساحة، بفضل وسائل النقل العمومية التي تتنوع بين سيارات سياحية وفانات وتك توك. وهنا أيضاً تظهر طبقية أخرى بين مستخدمي هذه الوسائل، حيث التاكسي للراكب الذي يريد مغادرة الساحة على عجل فقط، وهؤلاء كما يؤكد أصحاب هذه الوسائل نادرون. أما راكب الفان فهو ممن يتنقلون بين المحافظات أو الأقضية. ومعظم هؤلاء من العاملين في السلك العسكري. ليبقى التوك توك وسيلة التنقل المحلية الأكثر اتساعاً، ومستخدموه هم من طبقة المسحوقين، سواء في المجتمعات اللبنانية أو بمخيمات النازحين السوريين.

ومع أن المضاربات والأحقاد تتجلى أيضاً عند هذا المكون في ساحة شتورا، إلا أن أن الشكوى من تراجع المداخيل لسان حال كل العاملين في مجاله. خصوصاً أن قيمتها يحددها سعر صرف الدولار وغلاء المعيشة. ويلتهمها خصوصاً غلاء صفيحة البنزين أو المازوت اللذين يحركان آلياتهم.

هذه المشهدية ستجعل بطبيعة الحال معرفة مصدر الضجيج في هذه الساحة مهمة صعبة. هل هي من أبواق السيارات التي تملأ المكان. أو حتى من تلك التي تصدر عن دراجة هوائية تبيع الكعك وغزل البنات، من دون أن يأبه مطلقها بأنه كلما أطلق "زموراً" يثير انتباه من ينمّطون الباعة المتجولين ويتهموهم فوراً أنهم "مخابرات" بمفهومها المتوارث منذ مرحلة تواجد الجيش السوري في لبنان.

ليبقى كل ذلك ثانوياً أمام ما يملأ هذه الساحة من عفوية، قد تصلح كمكون لدراسة اجتماعية، تسهم حتى في فهم حركية اللبنانيين تجاه تداعيات أزمة اقتصادية سيسجلها التاريخ حتماً. ففي ساحة شتورا تتجلى التناقضات بالتأكيد. ولكن هنا أيضاً تبرز القواسم المشتركة بين يوميات اللبنانيين التي بات يسيرها الدولار صعودا ونزولاً، فتنعكس واقعاً من الفوضى وانعدام الضوابط، وحتى الأخلاقية منها أحياناً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها