الإثنين 2023/01/16

آخر تحديث: 14:33 (بيروت)

باسم زودة الشغوف بزخرفات طرابلس القديمة: تاريخنا بخطر

الإثنين 2023/01/16
باسم زودة الشغوف بزخرفات طرابلس القديمة: تاريخنا بخطر
توثيق شامل لفن الزخارف الخاص بطرابلس (المدن)
increase حجم الخط decrease

ينشغل المهندس المعماري باسم زودة بتوثيق أكثر من 110 زخرفة في طرابلس القديمة، في عمل هو الأول من نوعه بعدما تعاقبت عليها منذ مئات السنوات، الكثير من الحضارات التاريخية.  

يعشق زودة مدينته طرابلس عن وعي وإدراك لأهميتها الاستثنائية. كان حبّه لها فطريًا، ثم صقله بالمعرفة، حتى صار مهنة وشغفًا. ويحزن لما يصفه بجهل معظم الناس وأهل طرابلس بتاريخ عمارتها العريق. مزج هذا الشاب البالغ 29 عامًا، بين تخصصه الأكاديمي بالهندسة المعمارية والفن الإسلامي، فانكب بقدرات جبارة يصفها بالمحدودة، لإحياء التراث المعماري على طريقته غير المعهودة، فصار مقصدًا ودليلًا سياحيًا لمئات الأجانب وبعض اللبنانيين الذين يقصدون طرابلس للتعرف على تاريخها، بدءًا من ساحة التل وتوغلًا بـ"طرابلس المُستجدة" كما يحب التذكير باسمها عند إنشائها في عهد المماليك سنة 1289، حتى صارت معروفة اليوم بـ"طرابلس القديمة". 

مسيرة مهندس منذ الصغر  
وفي لقاء خاص مع "المدن"، يُعرّف باسم زودة عن نفسه بـ"طرابلسي شامي"، "لأننا في زمن نعاني من انتزاع الهوية، وهويتنا شامية عربية بصرف النظر عن دياناتنا". ويتحدث عن شغفه بالفن الإسلامي الذي تتكثف تجلياته في طرابلس بزخرفات وتزيين الجوامع والأبنية والبيوت وبعض المدارس القديمة. ويقول: "في أيام المدرسة كنت أرسم وأخربش على دفاتري أشكالًا هندسية وأدمجها ببعضها، ثم تطورت المسألة حتى صارت دفاتر مليئة بالزخرفات، إلى أن تخصصت بالجامعة العربية-فرع طرابلس بالهندسة المعمارية، ولم يكن لدي فكرة حولها، وتخرجت في العام 2016".  

وفي أول عامين من حياته الجامعية، انضم باسم زودة إلى مجموعة we love Tripoli، ويقول إنها المرة الأولى التي كان ينزل فيها إلى المدينة القديمة في طرابلس للتعرف على تاريخها وعمارتها.  

ويضيء على مشكلة ثقافية كان يعاني منها كمعظم أبناء طرابلس. فمن يسكن في طرابلس الجديدة، لا يدخل طرابلس القديمة إلا نادرًا وعلى عجل، وغالبًا بهدف إصلاح شيء أو لشراء حلوى قديمة مثل الجزرية. وهو ما كان يفعله زودة مع والدته حين كان صغيرًا.  

ولاحقًا، أصبح زودة في الهيئة الإدارية للمجموعة، قبل أن يتركها بسبب انشغالاته بالهندسة المعمارية والفن الإسلامي. ثم حمل مشروع تخرجه عنوان "متحف عن تاريخ طرابلس".  

وعند تخرجه من الجامعة، تواصلت معه إحدى زميلاته، طالبةً منه مرافقة مجموعة سياحية هولندية تقصد التجول بطرابلس القديمة. يقول: "كانت معلوماتي التاريخية عن طرابلس متواضعة، لكن ما إن بدأت تقصدني تباعًا الوفود السياحية، حتى شعرت بالرهبة والمسؤولية، وصرت منكبًا على قراءة عشرات الكتب التاريخية عن طرابلس لصقل معرفتي بها، إضافة إلى حضور عشرات المحاضرات حولها، حتى أمزج جولاتي بين البعد السياحي والتاريخي والتراثي والتثقيفي والفني".  

وحتى الآن، تمكن زودة وحده من دون مساعدة أحد، من اصطحاب أكثر من 300 وفد سياحي معظمها من الأجانب، بعدد إجمالي ناهز آلاف الأشخاص، ويتأسف أن اللبنانيين عمومًا لا يهتمون بمعرفة تاريخ مناطقهم.  

منبر جامع طينال


عمارة فريدة  
يتحدث باسم زودة عن عمارة طرابلس بوصفها مزيجًا فريدًا يصعب العثور عليه بأي مدينة أخرى. ويقول: "في العام 1289 كانت طرابلس محصورة بالميناء، وحين جاء المماليك نقلوها إلى الداخل وأسموها "طرابلس المُستجدة". ونجد أن الأحجار الموجودة في طرابلس القديمة، منها الفينيقية والرومانية واليونانية والبيزنطية والأموية والعباسية والفاطمية والصليبية، وهو ما أنتج مزيجًا عمرانيًا فريدًا من نوعه". ويفيدنا أن بعض المساجد التاريخية في طرابلس، قد نجد فيها قنطرة صليبية وأعمدة رومانية وفينيقية، وزخرفات إسلامية وكتابات فاطمية، كمسجد طينال والبرطاسي وغيرهما، وخان المنزل قبالة قلعة طرابلس مثلًا، "واجهته صليبية وعليه كتابات رومانية ومملوكية".  

ويتأسف زودة على الزخرفات الموجودة في طرابلس والتي يصعب العثور عليها بمدينة أخرى، خسرنا منها الكثير بسبب الحروب وسوء الإدارة وتعديات البناء عليها.  

ويذكر أن ثمة مساحات كثيرة من المدينة حافظت على تراثها وهيئتها، مثل سوق الذهب الذي لم يتغير منذ نحو 700 عام، وكذلك سوق البازركان والنحاسين والدباغين والملاحة. فـ"رغم كل ما طرأ من أحداث وتشوهات واعتداءات، يوجد في طرابلس مدينة شامية مثالية أصيلة، ويمكن من خلالها مراجعة مئات السنوات من التاريخ والحضارات المختلفة".  

يعتبر المهندس الحريص على مدينته القديمة، أن ثمة إهمالًا كبيرًا بتعاطي الدولة ممثلة بمديرية الآثار معها، إضافة إلى عدم إدراك الناس بطرابلس لأهميتها، حتى يحسنوا على الأقل، الحفاظ عليها. ويقول: "ما لا يقل عن نصف المدينة القديم راح هباءً، والآتي أعظم مستقبلًا، وثمة تهديد فعلي لوجود تراثها المعماري".  

زخرفة الجامع المنصوري


توثيق الذاكرة  
هذا الواقع، دفع زودة إلى المبادرة وحيدًا ولأول مرة بتاريخ طرابلس، إلى توثيق شامل لكل الزخرفات بأبنيتها، حفظًا للذاكرة الجماعية، قبل زوالها وفوات الأوان. ويقول: "كثيرون عبثوا بتراث المدينة المعماري، من أيام الانتداب الفرنسي والحروب التي شهدها لبنان وفيضان نهر أبو علي عام 1955، وما تبعه من شق عبثي للطرقات على الجهتين، ثم الحرب الأهلية".  

كتاب الزخرفات  
حاليًا، يدأب باسم زودة على إنجاز كتابه حول الفن الإسلامي في طرابلس، عبر عملية توثيق دقيقة للخرائط الأولية وإعادة تصميم هندسي للرسومات والزخرفات في طرابلس. يقول: "لم تشهد هذه الزخرفات الاستثنائية توثيقًا شاملًا لها، واقتصرت على بعض الجوامع، بينما أعمل راهنًا على فك شيفرة الزخرفات مع توثيقها لأعمال فنية تعود لأكثر من 400 عام".  

ويطلعنا زودة على آلية تصاميمه للزخرفات التي يعثر أحيانًا على أجزاء بسيطة منها، ثم ينكب على وضع تصميمها الكلي. ورصد حتى الآن 110 زخرفات، ويتوقع أن يصل لنحو 120 زخرفة، و"بعضها متكرر بعدد من المباني، ونجدها على الأرضيات والمنابر والجدران وفي الواجهات القديمة".

 

وسيصدر الكتاب المؤلف من توثيق للزخرفات والرسومات الهندسية وكامل خطواتها من النقطة والخط الأول، مع شروحات باللغة الإنكليزية، ومن المحتمل أن يرفقه بالعربية أيضًا.  

ويدعو زودة إلى ضرورة استثمار تراث طرابلس القديمة عبر السياحة أولًا، مذكرًا أنها أهم مدينة قديمة قي الشام وكانت تنافسها حلب السورية قبل تدميرها بالحرب هناك. ويحث على تعزيز الوعي لدى أبناء طرابلس عمومًا وسكان المدينة القديمة تحديدًا على أهمية ما نملك وضرورة الحفاظ عليه.  

وفي ظل غياب شبه كلي للدولة الذي أصبح عائقًا ومعرقلًا لكثير من المشاريع التأهيلية التي تحتاج لأذونات، يحذر زودة من أن آلاف الأبنية التراثية مهددة بالدمار لأنها بلا تدعيم وتأهيل ورعاية، "ما سيقودنا إلى دمار ممنهج لتاريخ مدينة تضم أكبر قلاع لبنان، وأسواق وخانات وحمامات وأبنية نادرة في زمن الباطون والعشوائية العمرانية".  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها