الإثنين 2022/06/06

آخر تحديث: 10:57 (بيروت)

فتيان "حرش القتيل": قرصنةٌ للنساء.. صيدُ عصافير وصورِ شهداء

الإثنين 2022/06/06
فتيان "حرش القتيل": قرصنةٌ للنساء.. صيدُ عصافير وصورِ شهداء
يمرون مسرعين بدراجاتهم النارية قرب نساء عابرات وينشلون حقائبهن الصغيرة (علي علّوش)
increase حجم الخط decrease
حلقة أخيرة عن زمرة من فتيان شوارع يقيم أهلهم في "حرش القتيل" بالغبيري. وهي تتناول بعض نشاطاتهم في الحرش وأحياء قربية منه وتعرضهم لعمليات دهم من القوى الأمنية. وهذا بعد حلقات أخرى نُشرت في "المدن" تباعًا: أولى، تانية، ثالثة، رابعة، وخامسة.

الصيد وقطاف الزيتون
ما أن خرجتُ من بوابة مدرسة كنت أدرس فيها بضاحية بيروت الجنوبية في غروب نهار من مستهل العام الدراسي، ومشيت خطوات في الشارع، حتى سمعت صوتًا من الخلف ينادي: أستاذ، أستاذ، شو ما بدك إحكيلك عن الحرش اليوم بعد؟ في حكايات كتير جديدة إذا بدك. التفتُ فاذا بحسين دحنون يقف خلفي. وكنت قد تعرفت عليه وحدثني عن حياته في نهاية العام الدراسي السابق. غدًا، غدًا، قلت له. وفي غروب نهار الغد اقتربت منه فيما كان يحادث سائق دراجة نارية من أقرانه وسط الشارع. قلت له إنني جاهز لاصطحابه. أنا مشغول اليوم أستاذ، أجابني، ثم تابع حديثه مع سائق الدراجة النارية، فترددت لحظات قليلة قبل أن أتركه وأمشي. وفيما أنا أضع المفتاح في موضعه من باب السيارة، حتى وجدته قربي، وخاطبني قائلًا إنه يريد الخمسة آلاف ليرة التي بقيت له في ذمتي لقاء أحاديثنا في السنة الماضية.

دخلت إلى السيارة، وشغّلت محركها وسألته عن سامر حيان، زميله في زمرة السنة الماضية. قال إن خاله عاد من إيران قبل شهرين بعد مكوثه فيها شهورًا، فأعاد تشغيل سامر معه في محله لتركيب برادي شرفات البيوت. ولا يأوي سامر إلى بيت أهله في الحرش قبل الثامنة مساء، متعبًا منهكًا. وأنت ماذا تفعل؟ سألته، فقال إنه قبل أيام عاد من قريته الجنوبية التي أمضى فيها فصل الصيف عند جده وجدته لأبيه، وسيعود بعد أيام إلى القرية لمساعدتهما في قطاف الزيتون. وذكر أن معظم أهالي قريته المقيمين في حي من الحرش يسمّى باسمها، منشغلون فيها بقطاف الزيتون، ومنازل كثيرين منهم في الحي مؤجرة موقتًا من عمال سوريين. أما الخمسة آلاف ليرة التي يريد الحصول عليها مني، فقال إنه يريد أن يشتري بها علبة خرطوش لبندقية الصيد الذي يهواه ويعبده. وموسم صيد طيور الفري بدأ قبل أيام في قريته.

وكان تلميذ في المدرسة قد روى لي قبل يومين وقائع الشجار الأخير في الحرش، حيث يقيم أهله: من بندقية صيد العصافير، كان حسين دحنون يتسلى بإطلاق حبيبات خردق على صور شهداء حزب الله وأمينه العام المعلقة هنا وهناك في الحرش، فهاجمه فتيان وشبان من الحزب إياه وضربوه ضربًا مبرحًا وحطموا بندقيته، فتدخلت زمرة فتيان وشبان من حركة أمل التي يؤيدها دحنون. ودار بين الطرفين عراك عنيف في الأزقة بين البيوت، فلم يتوقف إلا بعدما تدخل مسؤولو مكتبي الحركة والحزب في الحرش.

قرصنة، نشل، وأفلام بورنو
ركب حسين إلى جانبي في السيارة، مبررًا طلبه الخمسة آلاف ليرة برغبته في شراء علبة خرطوش صيد، وما كان ليطلبها مني إلا لأن والده ذهب قبل أيام إلى دمشق، حيث لديه عمل مع شركاء سوريين في تجارة أجهزة الهاتف الخليوي، وفي خطوط الهاتف الدولية التي يملك محلًا لتشغيلها في الحرش. وقال حسين إن طلب المال من أمه يخجله منذ تجاوز طفولته. كأنه يقول إن الذكر البالغ يأبى أو يأنف من طلب مال من حرمة أو امرأة، حتى لو كانت أمه. ثم أضاف: لو كان أبي هنا لأعطاني خمسين ألف ليرة، بل مئة ألف. وحين قلت له إن أباه ميسور الحال، إذًا، أجاب أنه يملك شقتين اثنتين في بئر العبد. ولماذا تسكنون في الحرش إذًا؟ سألته، فقال إن أباه يرفض الانتقال إلى بئر العبد ليظل مقيمًا قرب سنترال خطوط الهاتف الدولية الذي يملكه ويشغله في الحرش.

وكان سامر حيان قد روى أن حسين دحنون قرينه في الزمرة تلميذ في مدرسة "الإخاء" الأهلية الخاصة في حارة حريك، فأدمن "الحبحبة"، أي تناول أقراص البنزكسول الطبية الخاصة بالمصابين برجفة عصبية في أطرافهم، وكثُر تغيبه عن المدرسة. وحين علم والده أن علي جنزارة علّمه الحبحبة والتحشيش (تدخين حشيشة الكيف)، ضربه واتصل بـ"تحرية" لملاحقة جنزارة والقبض عليه. ووالد حسين دحنون، حسب سامر، منتسب إلى حركة أمل، و"معه مصاري كتير" حصّلها من سنترال خطوط الهاتف الدولية المقرصنة في الحرش. وفي موجة مداهمات السنترالات، قُبض عليه وسجن مدة، ثم أفرج عنه، فعاد إلى فتح محله وتشغيله. لكنه أصيب بذبحة قلبية جراء إكثاره التدخين، فشفي منها وتابع عمله في السنترال. وذكر سامر أنه تعرّف إلى علي جنزارة قبل سنتين، عندما كان يفرُّ من بيت أهله في الحرش، فيدوم غيابه عنه أحيانًا أسبوعًا كاملًا. وحين يعثر عليه والده يعيده إلى البيت لا يلبث أن يهرب مجددًا ويلتحق بزمرة جانحين محترفين في صبرا وشاتيلا. وهم مدمنو حبحبة وتحشيش، ويلجأون إلى تنشق بخار مادة التنر السائلة إذا لم يتوافر لديهم ثمن أقراص البنزكسول وحشيشة الكيف. وروى حسين دحنون الجالس إلى جانبي في السيارة أن زمرة من هؤلاء المحترفين ظهرت صورهم في الصحف، بعدما قبض عليهم رجال أمن إثر إقدامهم على  أعمال سطو ونشل: يمرون مسرعين بدراجاتهم النارية قرب نساء عابرات في الشوارع، فينزعون أو ينشلون من أيديهن أو أكتافهن حقائبهن الصغيرة الخاصة، ويفرون. وبيّنت التحقيقات أن بعض شبان تلك العصابة يديرون عمليات دعارة في شاتيلا، وآخرون فروا من التجنيد الإجباري فدخلت إلى الحرش ملالة عسكرية مجنزرة للبحث عنهم والقبض عليهم. (يسمى التجنيد الإلزامي في لبنان خدمة العلم، وبدأ تطبيقه على الشبان سنة 1993 عقب الحرب، وأُلغي سنة 2005).

نبهني ذكر عصابة الدعارة إلى أن أسأل حسين عن علاقته بالبنات، فقال: كل بنات العالم مثل أختي. وحين ألححت عليه بالسؤال عن رغبته الجنسية، أجاب: بس بدي بحضر أفلام سكس ع الإنترنت في المحال المنتشرة كثيفة في شاتيلا والحرش وحارة حريك وغيرها من أحياء الضاحية الجنوبية. وتستقبل هذه المحال الفتيان والشبان حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل. وهي تؤمن للراغبين حضور أفلام جنسية على أقراص مدمجة (C.D) مدة الفيلم منها ساعة واحدة، لقاء ألف ليرة لبنانية. وفي كل محل ما لا يقل عن 15 جهاز كومبيوتر يتزاحم الفتيان والشبان على حضور الأفلام على شاشاتها.

حوادث دامية وقهقهات أخيرة
أوقفتُ السيارة إلى جانب طريق يفضي إلى مداخل من مداخل الحرش، وترجلت منها مع حسبن دحنون. وسرعان ما انهالت عليه التحيات من شبان عابرين يعرفهم ويعرفونه يتوقون لمحادثته. أحدهم يلبس "تي شرت" بلا أكمام، تُظهر زنديه العاريين منتفخي العضلات وموشومين برسوم كثيرة، ويحمل آلة تسجيل كبيرة. شو وليه، منين هَـ المسجلة؟! سأله حسين في نبرة مختلفة عن التي كان يحدثني بها، كأنه في نبرته هذه يسأله: من أين سرقتها؟ فسارع شاب العضلات المنتفخة في شتم أم حسين شتيمة مقذعة، قبل أن يقول له: أنا اليوم تجنيد إجباري، وليه، قاصدًا في قوله هذا أنه لم يسرق المسجّلة. تذكرت أنني كنت قد رأيت هذا الشاب مرات مع زمرة فتيان السنة الماضية أمام المدرسة، وأن سامر حيان أخبرني أنه "آدمي"، لا يحبحب ولا يدخن ولا يحب المشاكل، بل مغرم بـ"الفيزيك" (رياضة كمال الاجسام) وبعضلاته والوشوم التي يطبعها عليها. وهو "مش قوي" ولا يبادر إلى الهجوم. فحين يتعارك فتيان الزمرة ويشاجرون مع سواهم، يروح يركض إلى هنا وهناك موهمًا أقرانه أنه يؤازرهم.

فجأة سمعت حسين دحنون يصرخ كلمات لم أفهم منها شيئًا تقريبًا، كأنها الفاظ لغة غريبة، أو لغة رمزية خاصة لا يفهمها سوى ذلك الفتى الذي رآه يدخل إلى الحرش. تهيأ لي أن نبرة الأصوات وقوتها والحركات التي يتبادلانها تنبئ انهما يتشاتمان في لغتهما الرمزية هذه. ولما ابتعدنا من الفتى في ممر ضيق من ممرات الحرش بين أبنيته المتقاربة، أخبرني حسين أن ذاك الفتى من كرد سوريين قليلين ينزل أهلهم هنا، وهما يتبادلان بعض الكلمات الكردية التي تعلمها منه. وفيما كنا نتجول في أزفة الحرش استنتجتُ من ما حدثني به حسين أن فتية بدايات الجنوح فيه ينسبون الحوادث الكبرى المشهورة والمشهودة إلى زمر شبان يكبرونهم بسنوات في شاتيلا وصبرا، ويجمعون على أنهم مرهوبو الجانب واحترفو الجنوح والعنف. أشهر الحوادث التي رواها حسين وأكدها تلامذة في المدرسة يسكن أهلهم في الحرش، وبطلها فتىً يدعى فوزي، يقولون إنه نجل شهيد من شهداء حركة أمل، وتركته أمه وحده في البيت وحده بصبرا ورحلت بعد مدة من مقتل والده ولم تعد. وفوزي يكثر تردده على الحرش مطاردًا عمالًا سوريين. عمره لا يتجاوز 16 سنة. لكن من يبصر الجروح المندملة في وجهه ويرى ضخامة جسمه وطوله، لن يصدّق أن عمره يقل عن 25 سنة. وهو دائمًا وبلا سبب يهجم على الناس، يتحرش بالبنات. وبعدما اعتدى مرة على عامل سوري في صبرا، هجم عليه جمع من عمال سوريين هناك، فثأروا لصاحبهم وابن بلدهم وتمكنوا منه، لكنه هرب إلى "المركزية"، أي مكتب حركة أمل المركزي في صبرا. ومن ذاك المكتب ركض فوزي إلى بيته، فتناول منه بندقية والده الشهيد الـ"أم 16" وهاجم بها العمال السوريين، وأطلق النار منها، فأصاب صبيًا صغيرًا في الشارع في رجله. بُتِرت ساق الصبي بعد نقله إلى المستشفى. وبعد إطلاقه النار التجأ فوزي إلى صيدلية قريبة فاعتقلته دورية من قوى الأمن الداخلي حضرت إلى مكان الحادثة.

ومن الحوادث الذائعة الصيت في الحرش، روى حسين أن دورية من الجيش دخلت اليه للقبض على فتىً وخاله الذي لا يكبره إلا بسنوات قليلة. وهما مطلوبان لحيازتهما سلاحًا حربيًا وتكراهما الاعتداء على بعض الناس. لم تستطع الدورية القبض عليها، لتحصّنهما في بيت الخال وتهديدهما الخنود باطلاق النار عليهم، قبل تمكنهما من الفرار من الحرش. بعد مدة قُبض مصادفة على الفتى فيما هو يقود دراجة نارية قرب محطة الرحاب على طريق المطار. أما خاله فدخلت دورية من الجيش إلى الحرش بعد أيام في الصباح الباكر لاعتقاله، فقبضت عليه نائمًا على سطح أحد البيوت، فراحت والدته تصرخ وتشتم الجنود، فالتم جمع من النسوة رحن يرمين الجنود بالشتائم والحجار، ثم ركضن خلف الجنود، فيما هم يقتادون المعتقل.

في غروب النهار التالي رأيت حسين دحنون يقف وسط زمرته الجديدة في الشارع قرب بوابة المدرسة. وحين خرجت من البوابة سألني كما في الأمس: ما بدك ياني اليوم، أستاذ؟ توقفت من غير أن أجيبه. تقدم مني فتىً من أقرانه، فسألته عما يفعله في يومه، فقال: "شوفير تخت، أستاذ"، ثم أطلق وصحبه في الزمرة قهقهات صاخبة. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها