السبت 2022/06/04

آخر تحديث: 11:31 (بيروت)

ملوك البنزكسول بـ"حرش القتيل".. وتمردهم على ملوك مواكب الشهداء؟

السبت 2022/06/04
ملوك البنزكسول بـ"حرش القتيل".. وتمردهم على ملوك مواكب الشهداء؟
حرش القتيل: أبنية إسمنتية صغيرة متراكبة طبقاتها، متراصة ومتكوكبة (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease
يتناول فتيان الجنوح والتسيّب في الشوارع أقراص البنزكسول، ليكتمل ضياعهم ويشتد عنفهم وتشتد اعتداءاتهم على أمثالهم ومن هم أضعف منهم وبلا عصبية أو عصبة تحميهم. وبعد حلقة أولى وثانية وثالثة ورابعة عن أحوال زمرة من هؤلاء الفتيان، هنا حلقة خامسة.

"حرش" ما بعد التحرير
في "حرش القتيل" بضاحية بيروت الجنوبية، حيث يقيم أهلهم، لا شيء يصرف زمر فتيان البؤس والتسيّب عن الجنوح إلى عنف مجاني في الشوارع، سوى محالٍّ صغيرة مقبضة يلعبون فيها "البيبي فوت" صاخبين متوترين، وأخرى مثلها لألعاب إلكترونية على شاشات أجهزة كومبيوتر يشاهدون عليها أيضًا أفلامًا بعضها جنسية خلاعية. هذا، إضافة إلى فسحات رملية يلعبون فيها كرة القدم على أطراف الحرش، حيث لحركة أمل وحزب الله مقار، لبعضهم معارف فيها من أمثالهم فيأتون إليها للقائهم.

يشعر الداخل في أي وقت من النهار إلى متاهات أزقة أحياء الحرش بين أكواخها الغبراء الجدران، المتراصة الملتحمة، أنه في عالم رحمي خانق، منقطع عن الخارج. والمقيمون هنا منكفئون على زمن حياتهم الرحمية في الأبنية الإسمنتية الصغيرة المتراكبة طبقاتها، المتراصة والمتكوكبة على جنبات أزقة متربة موحلة أو مفروشة بمساحات من باطون كالح، متآكل ومبقور هنا وهناك، حيث تُرمى نفايات مزمنة. عرائش كرمة وقنّب (الليف) كثيرة على سطوح الأبنية وفي الفسحات الضيقة أمام مداخل الأكواخ. يسمع العابر في الأزقة أصوات ساكنيها الحميمة، فيشعر أن حياة أهلها الداخلية خلف الجدران تكاد تنكشف للعابرين. لا شيء هنا ينبئ عما يفعله فتيان هذه الأحياء في الشوارع القريبة. هم صاخبون مشاكسون غليظو الأصوات خارج مكان إقامة أهلهم بهمهماته الخافتة. شيء ما في هذا المكان يوحي أنه مهجور، أو أخلي من حياة سابقة كانت تدب فيه قوية صاخبة.

لقد أخلى تحرير قرى وبلدات الشريط الحدودي الجنوبي سنة 2000 بعضًا من مساكن الحرش. صخب أعمال الرجال النهارية، من ميكانيكيي سيارات وحدادين وتجار مفروشات ودكاكين، يقتصر على محال تدير ظهرها لأحياء الحرش خلفها، وتطل أبوابها على الشارع الخارجي العام بين جسر المطار والسفارة الكويتية. العمال السوريون الذين يمضون نهاراتهم كلها في أعمالهم بعيدًا عن غرفهم الجماعية المستأجرة في الحرش، لا شيء ينبئ أن لهم حياة في الغرف التي يأوون اليها مساء. فحياتهم أضأل من أن يبقى منها شيء يذكّر باقامتهم هنا. والخفوت الداخلي في أحياء الحرش يقابله صخب في محيطه الخارجي وفي الشوارع القريبة: أمام المدرسة الرسمية، وتحت الجسر في مكان مستديرة المطار القديمة، حيث تعوّد حزب الله في مناسباته الكثيرة أن يوقف سيارة يلفها بأعلامه ولافتاته، ويتجمع حولها لفيف من مناصريه الشبان والفتيان، واقفين أو جالسين على كراس قرب السيارة طوال النهارات. أعلام صفراء منصوبة أيضًا في حجارة لبن مركونه على الرصيف الضيق. وفي وسط الشارع المزدحم دائمًا بالسيارات، مسكبة صغيرة من أعلام يقف قربها فتى يلف جسمه بعلم ويحمل صندوق تبرعات معدني صغير يقرِّبه من نوافذ السيارات العابرة بطيئًا بطيئًا. زحمة السير تشوبها أصوات أشد منها صخبًا تنبعث من مكبّري صوت على جانبي الشارع، وتمتد منهما أسلاك إلى داخل السيارة الملفوفة بالأعلام.

مساءً، في المكان نفسه تحت الجسر، يلتقي فتيان الزمرة، بعدما يخلي فتيان الحزب عينه المكان من مهرجانهم الصغير. يلتقون في انتظار اصطيادهم عاملًا سوريًا عابرًا، فيعتدون عليه. يختارون لنشاطهم العدواني المجاني ضحية يعلمون أنها غريبة عزلاء ومنقطعة ولا سند لها. يطلقون عدوانيتهم المجانية من أجسادهم وصدورهم المليئة بالمهانة والاحتقار والخواء، وقد تنطوي على قدر خفي من ميلهم إلى التدمير الذاتي الذي ربما يحدسون أن لدى ضحيتهم البائسة ميلًا خفيًا يماثله أو يشبهه. كأن ما في أنفسهم وأجسامهم الفتية من مهانة واحتقار، يورطهم في العنف الذي كلما تورطوا فيه، يخطون خطوة جديدة إضافية على طريق الجنوح، فتترك ندوبًا في وجوههم وأوشامًا على زنودهم وأذرعهم. يحسبون الندوب والأوشام من علامات بأسهم المسرحي وبؤسهم المكتوم. فحين سألت أحدهم عن ندبة بدت كأنها من مخلفات عضة أسنان في جلد جبهته، وضع أصابع يده على الندبة وقال إن "صرصورًا مرّ من هنا". لم أكن أتوقع مثل هذه الإجابة العبثية الهاذية، المستلة من عبارات تماثلها كثُر تلطيخ الجدران بها في زمن الحرب، وأشهرها: "أبو الجماجم مرَّ من هنا". ذاك الاحمرار العكر في عيني حسين، أحد فتيان الزمرة، هو من مخلفات نوم غير منتظم ومتأخر، وعلامة على توتره العصبي وفوضى حياته في الشوارع. أما تحت أظافره الطويلة فيتراكم وسخ أسود منسي لا يشعر بوجوده.

فتيان البنزكسول
نسبَ سامرٌ -وهو فتىً آخر من فتيان الزمرة- فِعلَ حَبْحَبَ، يُحبحب، يحبحبون، إلى أقرانه، وإلى زمر أخرى أعلى مرتبة من زمرته في الجنوح، وقال: فتيانها علمونا الحبحبة. سألته ما الحبحبة يا سامر؟ فقال مستغربًا: وين عايش با أستاذ، ما بتعرف البنزكسول؟! بدك حبة؟ واستل من جيبه واحدة وأراني إياها متابعًا: موجودة في الصيدليات. وعلمتُ لاحقًا من أحد الصيادلة أن أقراص البنزكسول دواء يصفه الأطباء للمصابين بالباركينسون، ومن أعراضه ارتجاف في أعضاء الجسم نتيجة تشنج العضلات، وقد تنجم عن تناوله مضاعفات أخرى، قال الصيدلي إنه غير عليم بها، وذكر أن نقابة الصيادلة أصدرت تعميمًا يحذر الصيدليات من بيعه بلا وصفة صادرة عن أطباء. وذلك بعدما أفادت تقارير قوى الأمن الداخلي أن دورياتها قبضت على فتيان وشبان ارتكبوا أعمال عنف وشغب، ونسبوا أفعالهم إلى تناولهم أقراص بنزكسول وإدمانهم عليها.

أما سامر الذي صرّف فعل حبحب، يحبحب، على وزن حشّش، يحشّش، فقال إن متناولي أقراص النزكسول من الفتيان تحمرُّ عيونهم وتتضاعف قوتهم، ويندفعون إلى تحطيم كل ما يقع في أيديهم، وتشتد شراستهم في عراكهم وفي اعتداءاتهم على عمال سوريين في أي وقت ومكان، خصوصًا في طفراتهم الليلية خارج "الحرش". وقد يفتعلون عراكًا في ما بينهم إذا تعذر عليهم العثور على ضحية مناسبة لتفريغ شحنات عنفهم.

وأنا من دخلت "الحرش" من زاروب على مسافة عشرات أمتار من الجسر فوق ما كان يسمى مستديرة المطار، رأيت عبارة "ملوك البنزكسول" مدونة بلون أحمر وخط عريض بارز على جدار في الحي. وهناك واحد من شعارات كثيرة لأمل وحزب الله وصور شهدائهما، وأخرى قديمة مهترئة لشهداء من منظمات فلسطينية وما كان يسمى "الحركة الوطنية" في حروب ما قبل العام 1982. وتنتشر هذه الصور والشعارات على جدران  الحي الداخلية. ومن كلام سامر وحسين قرينه في الزمرة، استنتجت أن فتيان الجنوح اختطوا شعار "ملوك البنزكسول" على مدخل "الحرش" للإعلان عن حضورهم وأفعالهم التي ينسبونها إلى فعل أقراص البنزكسول في أجسامهم، وينسبون زمرتهم إليها. وهذا على نحو ما يفعل ويعلن سواهم عن بطولاتهم وولاءاتهم وأفعالهم في الحي، وسائر أحياء المدينة وضواحيها وشوارعها. ألا ينطوي شعار الفتيان هذا على شيء من تمرد مجاني غاضب على ما هم فيه، وينطوي  كذلك على سخرية ما من حالهم وحال سواهم من الجماعات المنظمة التي تسيطر على بيئتهم؟ تساءلتُ. فالتمعت في ذهني على نحو خاطف مقارنة بين السحر الذي يفعله البنزكسول في ملوكه الصغار الضائعين والمشردين، والسحر الذي تفعله الرايات والأعلام والشعارات وصور الشهداء والمهرجانات والمواكب في الحشود الهاتفة أو الهاذية بأسماء ملوكها السحرة الكبار. ثم تساءلت أيضًا: ما الفرق بين اعتداءات ملوك البنزكسول المجانية والعبثية على عمال سوريين، وسوق العمال إياهم وسواهم من جمهور السحرة الكبار للمشاركة في مواكب الطاعة والولاء لملوك لا يقبلون بأقل من دماء البشر وأرواحهم والأبد مددًا لسلطانهم الدنيوي والأخروي.

الإعداد والتسليك
ومضى صيف على لقائي فتية الزمرة وزياتي حي إقامة أهلهم. ففي بدايات السنة الدراسية التالية، كنت جالسًا عصر نهار في مكتب المديرة، حين سمعت أحدهم يصرخ مناديًا باسمي. خرجتُ إلى الشرفة حيت كان مدرس زميل يقف مدخنًا سيجارة، فأبصرت فتيانًا من الزمرة إياها يقفون في الشارع متصايحين قرب بوابة المدرسة. أنظر، أنظر، لقد أتوا، عليك بهم قال المدرس، وأشار بيده إليهم ضاحكًا من تعرفي على بعضهم وتسجيلي سير حياتهم. كان بينهم حسين وسامر الذي أيقنت أنه من صرخ باسمي، وكنت اصطحبته مرة إلى مقهى في شارع الحمراء. فكرت أنهم -على خلاف التلامذة- انتظروا بفارغ صبرهم انتهاء العطلة الصيفية، ليتخلصوا من ضجرهم وفقدهم مسرحًا أساسيًا من مسارح لقاءاتهم وعراضاتهم اليومية للمشاكسة والتصايح والعراك المفتعل في ما بينهم ومع التلامذة أمام المدرسة. وحالما تكاثر المدرسون على الشرفة بدأ أحد الفتيان العرض في الشارع: امتطى دراجته النارية الصغيرة وانطلق بها رافعًا مقودها ودولابها الأمامي مشوِّحًا بجسمه في الهواء، مندفعًا بدراجته نحو فتيان الزمرة. اختلط صراخ فرحه الهائج بعويل الدراجة وتصايح أقرانه وقذفهم إياه بشتائم مقذعة، فيما هم يتقافزون متبعثرين ويخلون الشارع له، مصطنعين الخوف من أن يصدم أحدهم بدراجته التي راح يذرع بها الشارع جيئة وذهابًا بسرعة صاخبة. حين لمحت حسين دحنون يقف قرب بوابة المدرسة وسط ثلاثة فتيان أو أربعة لم أرهم في نهارات السنة الدراسية الماضية، فكرتُ أنهم انضموا حديثًا في الصيف الفائت إلى الزمرة، بعدما لفظتهم مدرسة ما. وقد يكون حسين قدوتهم ومدربهم ورائد تسليكهم في الزمرة، بعدما تفرق شمل بعض فتيانها القدامى وأخذتهم سبل الحياة وسككها، فتركوه وحيدًا مستوحشًا ليواصل نشاطه مع سواهم. ففتى الإهمال والتسيّب لا يصير من فتيان الشوارع الجانحين بمفرده، بل يحتاج إلى الانضواء في زمرة تسلِّكُه وتعدّه. فعلي جنزارة الذي رأيته يجلس وحيدًا على سطح مبنى قسم الروضة المدرسي الخالي في نهار من السنة الدراسية المنصرمة، وبدا لي غريبًا مستوحشًا في لذع شمس تلك الظهيرة، ليس في عدادهم اليوم. وقد يكون تخلى عن الزمرة وغادرها إلى سواها أو إلى عمل موقت ما.

ذكرى أليمة
وها مشهد الفتيان المتحلقين حول حسين دحنون يذكرني بانقباضي ومرارتي حينما كنت تلميذًا بعدُ، وعدت إلى مدرستي في مطلع سنة دراسية في أواسط الستينات، لأعيد الصف الأول من المرحلة التكميلية (المتوسطة) الذي رسبت فيه. أذكر أنني أصبت بكمدٍ وحِدادٍ أليمين طوال العام الدراسي ذاك، فانكفأت على شعور ممضٍّ بالشقاء دفعني إلى تمرد فردي عنيف أدى إلى طردي من مدرستي الرسمية. ولم أشفَ من وصمتي تلك إلا بعد وقت طويل، بعدما سجلتني أمي في مدرسة خاصة تابعت فيها سنواتي الدراسية اللاحقة. لكن شتان بين مجتمعات الستينات اللبنانية واليوم، سكنًا وأحياء وأهلًا وقيمًا وتعليمًا. فالحروب الأهلية (1975-1990) لم تترك شيئًا إلا قوضته. ولا أدري إن كان تلامذةٌ يشعرهم اليوم بالمرارة والحداد والكمد والمهانة رسوبُهم في مدارسهم أو طردهم منها، وإن كان يسع أهلهم تدبر إنقاذهم من شعورهم ذاك الذي غالبًا ما يتحول معينًا لسخط وحنق وغضب واحتقار للنفس، فيما هم يتأهبون للتحول فتيان شوارع مشاكسين مشاغبين على أبواب المدارس وفي غيرها من الأماكن العامة.
(يتبع حلقة أخيرة)

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها