كان يعقوب يعتلي المراتب، ويتلقى التنويهات، وجسدي يتكور أكثر في الليل، في بحث عن حالة جنينية تبعث على الاطمئنان. صنع مجده من تلك الجروح، وبعض الخطابات الضحلة، وقدرته على الامتثال لأوامر رؤسائه من دون أي اعتراض. مأساة أنه أثناء سقوطه فجأة من مرتبة البطولة إلى الوضاعة لم يسقط وحده، بل سقطت أحلام كثيرين معه، ومن بينهم ذلك الطفل الذي لم يستجب لنداءاته. والمأساة الأكبر أن سقوطه الأخلاقي كان يسير في خط معاكس لصعوده السياسي.
سيكون عام اكتشاف الجسد، فألقاه مشظى، كأنني منفيّ داخل جسد، بمخيم على هامش العالم، أو منفي منه. الحاجة ملحّة للهروب من منفيين: الجسد والمخيم. يظهر من دون مقدّمات من يستجيب لتلك الحاجة بعد عام. إنه يعقوب آخر. التقيته في جامع فلسطين، القائم منذ عام 1950. لا يردّ ذاك الجامع طالباً للكلام، حتى إن القائد في الهيئة العربية العليا إميل الغوري خطب فيه عام 1964 محاولاً الحدّ من التحاق كثيرين بالبعث وحركة القوميين العرب.
فساد يعقوب الثاني والثالث
كان الأخ يعقوب يختار دائماً زاوية المسجد ليتحلق حوله مريدوه. أحاديثه آسرة خصوصاً عن عدم التفريق بين الأعداء وأهل الفساد. كان ثورة بذاته. اقتربت منه حتى صرت بين يديه "كالميت بين يدي غاسله" كما تقول المتصوفة. أقلّد صوته وطريقة كلامه. أفرح لأن بعض شعرات نبتت على وجهي، "فلحيتي ستصبح مثل لحية يعقوب". يكفي أن يقول لأعتبر قوله أمراً. حدّث عن أبي ذر الغفاري فوقعت في عشق ذاك الثائر الذي سمّاه البعض اشتراكياً. لماذا أبو ذر؟ هل هو ردّ فعل على فساد يعقوب الثاني، أم عرق دسّاس لجدّ صوفي، شوهد في مدينة عكا يغمس حبة تين في التراب ويأكلها عقاباً لنفس تمادت في الاشتهاء، أم أنني لم أُشف بعد من الرفيق يعقوب؟ قال سأدعوك أبا ذر، ومثله لا يَسأل بل يُطلق الأسماء، ويسبغ الصفات.
استرجعَت أحاديثُه القوة إلى جسدي الهزيل، بعث به إرادة أعادت ترميمه، ما عدت منفياً داخله ولا مضطرب العلاقة معه. كل الحواجز المحيطة بالمخيم لم تعد تعنيني كثيراً. يكفي أن يحدثني عن أفغانستان لأشعر أن وادي بانشير أقرب إلي من "جورة ترشيحا" حيث أسكن، فننشد بحضرته "يا قمم جبال سليمان/ النصر لشعب الأفغان". يجول بنا العالم في رحلات طويلة عبر خطبه ونحن لا نستطيع اجتياز حدود المخيم إلا بتصريح. تخلصتُ من منفيي الجسد والمخيم معاً.
الحياة بلا حلم
حوالى ثلاثة أعوام لا انفكاك للمشاعر والتفكير والطباع عنه، صرنا "مجاذيبه". كانت صورته خالية من الشوائب إلى أن اختبرت الحياة نقاءه. بقوة مريديه سلب أرضاً. ذرائعه كانت واهية "بيتي صغير، كذلك الأرض، وهي ليست ملكاً خاصاً، و.."، هكذا أجاب حين تجرّأ بعضنا وسأله. يعقوب، كان يردّ قبل ذلك إذا أعياه السؤال واستعصت عليه الأجوبة "استفتِ قلبك"، والقلب ما كان يحكم إلا حكماً واحداً: ما فعله يعقوب هو سلب لا يقبل التأويل.
حوالى ستة أعوام ظهر أكثر من يعقوب بأكثر من وجه وأسلوب خداع، حوّلت كل معاني غيرية مراهق إلى الذاتية، وربما الارتياب أحياناً. كان على المراهق أن يردد مقولة عفلق "ليس هذا البعث بعثي" بتلاوين مختلفة. ويتساءل عن الفرق بين يعقوب سلب بيت أبيه وجده في بلدته "شعب" ومدينته عكا، ويعقوب يحاول سلب حلمه. صعب أن تبدو أبلهاً، كلما تراءى إليك حلمٌ ركضت خلفه، لتحصد السراب. لكن ما هو أصعب أن تغدو بلا حلم. كلما خاب حلم كان علينا أن نصنع حلماً آخر لنطارد اليأس في المخيم.
البلاهة قاسية، لكن الحياة بلا حلم يباس، ولا تستحق اسمها ومعناها. فكم بتّ، منذ يعقوب الثالث، ألعن السياسة، وفي الليل يراودني حلم، لم يفارقني منذ طفولتي حتى اليوم، أنني أقفز من سور عكا إلى بحرها في بهجة وفرح حتى أكاد ألامس الروح، أو فعلت. الحلم يصل كل زاوية في النفس، العقل لا يستطيع. ماذا فعلتَ بي يا يعقوب لأفاضل بين البلاهة والحلم؟
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها