الأربعاء 2022/05/11

آخر تحديث: 12:08 (بيروت)

الانتخابات: أمراء لبنان يورِّثون جثَّتَهُ لأبنائهم

الأربعاء 2022/05/11
الانتخابات: أمراء لبنان يورِّثون جثَّتَهُ لأبنائهم
صورٌ قليلة باهتة أُضيفت إلى فقر المدينة المهملة (Getty)
increase حجم الخط decrease
نختنقُ، إننا نختنقُ في بلاد الاختناق.

على صباحات الرماد نصحو بإرادة كسيحة، فنسعى سعيَ نمالٍ في حياة مستعملة، في البيوت والشوارع ومكاتب العمل، وفي نزهاتٍ على شاطئ البحر.

لا نعلمُ في أي عمر نعيش. مثل سَيْرِنا في شارع انقطعنا عنه سنةً أو اثنتين، فنمرُّ فيه كأنما في منامٍ، أو تتراءى لنا أشباحُنا خاطفةً في صور منام، فلا نتعرّف على أنفسنا.

على جنبات الشارع متاجرُ مهجورة يكسوها الغبار، وعلى أرضها قليلٌ من مهملات تشبهنا، وتشبه ثيابنا، أيدينا، والكلمات المختنقة في أفواهنا.

أتذكرُ منزلَ صديقٍ هنا، في شارع قريب. أخافُ خوفًا غامضًا من أن أزوره، وأتساءل: هل لا يزالُ يقيم هنا؟ ولماذا يبقى؟ لا يعوزه سببٌ للرحيل. لم نعد نحتاج أسبابًا لنرحل ، أو لنختفي  بلا أن نُعلمَ أحدًا وبلا أثر. وإن بقينا لا شيء يدلُّ علينا. إننا نتناقص يومًا بعد يوم حتى الاختفاء. وظلالنا تتعفّنُ بطيئًا بطيئًا في داخلنا في بلاد الاختناق.

نلتقي في شارع شخصًا نعرفه ويعرفنا. فجوة زمنية غامضة تفصلُ بيننا، فنتبادل حركاتٍ مبتورةٍ، وكلماتٍ مثلها من بالَةِ الكلام، تسقط فجأة في الهوة.

صور بلهاء
وتطالعنا في شوارع مدينة الاهتراء والتحلُّل صور بُلَهاءٍ عُلِّقت فجأة وعلى عجلٍ بخيطانٍ وأسلاكٍ معدنية على أعمدة إنارة صدئت في أحياء صدأ الضوء والعتمة.

رجالٌ وقلة نساء منفردين، أو مُصطفِّين في صور نصفيّة جمعهم متلاصقين في استديو تصوير شحيح الإنارة. يتّخذون لوقفتهم للمصور تسمياتٍ بلهاءَ، لنختار منهم أوصياء أوفياء على الخراب، على مصيرنا المظلم.

وبعض الصور ثُبِّتت مائلةً عوجاء بمساميرَ تخترق جذوع نخلاتٍ وشجرات شوهاء على أرصفةٍ مهترئة مبقورة، ووسط شوارع اهترأ إسفلتها وتآكل، وتُركت على جنباتها أكوامُ نفايات.

صورٌ يخاطبنا بلهها بكلماتٍ جوفاء خاويةٍ تستصرخُ إرادتنا الكسيحة.

صورٌ قليلة باهتة أُضيفت إلى فقر المدينة المهملة، وأُعدّت على عجل، لنعرف أسماء أصحابها ونُبصر وجوههم، لئلا نختارهم بلا أسماء ولا وجوه.

الأمراء والورثة والجثة
صورٌ كهتاف الارتياح لأمير توأمة برلين والشياح. لتصير برلين مثل الشياح، ويرثها فارون من ديار الخراب، ويهتفون لأمير الخراب. وكان ينقصُ أن يُستكمل الهتاف باستعادة زخاتِ رصاصٍ تؤلط (تتجاوز) أصداؤها جنيف، ليظل سلطاننا عبد الحميد.

صورٌ مثل هتاف: سرْ بنا يا تيمور، يطلقه أمير العرفان في شتاء عمره. من حوله وحول نجله الوريث، أهل العرفان والحزب والوطنيون العرب في المسيرة المستمرة منذ الأجداد، لإعلاء شأن معقل الإرث الجردي. ولا خوف على المستقبل. فالرجالُ رجالٌ، والمبادئ مبادئ.

وصورة عملاقة على بناية مهجورة خربة، لأميرٍ وريثٍ شاء العزوف عن نشر صوره، فاختنق صوته. ويريد من مناصريه أن يكونوا أوفياء لعزوفه.

وتغيب صور موظفٍ يتنطحُ ليصير أميرًا على موظفين مثله، لئلا تتعثر المدينة. وهي عاثرة أصلًا ومسترسلة في اختناقها.

ولافتات عملاقة بلا صور، تكتفي بشعار واحد موحد: نحمي ونبني. والبناء لا يستوي عند أمير الحرب، أو أمير الأمراء، إلا إذا هبّت رياح البناء من شرقٍ تورّط في حرب قارّية إمبراطورية مدمّرة. وهي رياح موعودة بأن تثمر هنا في شرق المتوسط زراعةً على شرفات بيوت لبنان.

والمشرقية لها لافتاتها الأخرى: نحنا كنا، ومكملين، ورح نبقى. لكن أين وكيف ومتى؟ هنا والآن في ديار أمير الظلام، وريث دمار معركتين أخيرتين في سلاسل حروب طويلة.

وهناك لافتة لأمير الإرادة الذي نجا من حروب سابقة، واكتهل بلا وريث حتى الآن. ولافتة هذا الأمير تتكرر حمراء قانية، وصارخة: نحنا بدنا، نحنا فينا.

وأمير العشيرة الشمالية مرتاح لتوريث نجله إمارة جده. وربما لا يحتاج الوريث لصور ولافتات في ديار العشيرة.

صور ولافتاتٌ تخاطب أهل لبنان بأهازيج الأطفال في هوّة عتمتهم واختناقهم واختفائهم.

محمد العبدالله
نقضًا لمثل هذه الأهازيج وسواها من أمثالها، كان الشاعر محمد العبدالله قد كتب في نهاية حرب السنتين اللبنانية والملبننة (1975- 1976) قصيدته الملحمية "الفصل الأول من مصرع دونكيشوت". وهي نُشرت سنة 1977 في مجموعته "رسائل الوحشة"، ولا يزال مطلعها بليغًا في وصف حالتنا اليوم:

"للتكرار يؤلفُ حتى تعجز كل خليقة هذا الله

للتكرار يؤلفُ حتى تنفق كلُّ الأشياء الحيّة

ولنوح يأمره الله بأن: اجعل في فلك الله اثنين من الأزواج...

فيسترسلُ في القيلولة.

للطوفان وما بعد الطوفان من الضجر الرباني وعصيان ملائكة الله الأبرار

لآدم يلقي جثته عن أول شياء فيؤسس علم القتل الذاتي

ويعصي.

للورد البرّي وحيدًا أو خلف القبر المنسي

للطعنة فارغة عند الفجر

للطعنة فارغة عند الظهر

للطعنة فارغة عند غروب الشمس (...)

للقاتل والمقتول وللشهداء ومن قتلَ الشهداء

وللدم المسفوح بمقدارٍ معروف وحسب أصول مدروسة

أقف الآن على قارعة الوطن العربي

وحيدًا كغرابٍ نسيته استثمارات الشركات البترولية في الصحراء

وأنعي".

ويتابع الشاعر نعي البلاد:

"شاهدتُك ميتة في الأزهار البرية

شاهدتك ميتة في إسمنت المرفأ (...)

في أنواع العطر وفي الأسلحة الحربية

أتشفّى بترهّل ثدييكِ بين أيدي البحارة واستهتار الأمراء الضجرين(...)

لم يبقَ إلا السفّاحون المحترفون، خدّام السفاحين، لصوص الليل، سُرّاق النوم من الأجفان الشعبية

يأتمرون تباعًا حول مصير الجثة

أنتِ أكثر موتًا وفراغًا من جثة(...)

موج حجري/أفق حجري/وسماء حجرية".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها