السبت 2022/04/30

آخر تحديث: 11:41 (بيروت)

أيام بيروتية قديمة: ديوك الموارنة.. وريمون إده المتيّم ببدوية

السبت 2022/04/30
أيام بيروتية قديمة: ديوك الموارنة.. وريمون إده المتيّم ببدوية
العميد ريمون إده والشيخ بيار الجميل (الانترنت)
increase حجم الخط decrease
في معرض استعادته محطات من سيرة حياته، روي العميد الراحل مختار عيتاني (1918- 2015) وقائع وحوادث وحكايات تستعيد صورها ومشاهدها ولغتها شبه "الفولكلورية" عادات وتقاليد ومناخات اجتماعية ولغوية بيروتية، تعود إلى أوقات وأزمنة متباعدة تستغرق القرن العشرين المنصرم. وتأتي روايتها هنا تمرينًا على كتابة لصيقة بلغة راويها الشفوية.

فمختار عيتاني كان يمتلك ذائقة الحكواتي وموهبته الفنية، فتتدفق الأخبار طازجةً على لسانه بلغة زمنها القديم فيما هو يرويها عن الاجتماع الأهلي والعائلي البيروتي وحوادثه، وعن صلة مجتمع الأهل والعائلات ومراتبه بالإدارة والوظيفة. وبعد حلقة أولى، وثانية، وثالثة من رواياته، هنا حلقة رابعة وأخيرة عن صلته بالعميد ريمون إده.

ريمون إده يتعلم العربية
أنا من كنت قائد المنشقين عن سلك شرطة بيروت والمتمردين على الرئيس كميل شمعون سنة 1958، والملتحقين بالثوار المسلمين البيارتة بزعامة صائب بيك سلام، اختارني العميد ريمون إده، وزير الداخلية في حكومة رشيد كرامي الرباعية التي تشكلت عقب الثورة، لتأسيس الفرقة 16 لحفظ النظام والقانون بقبضة من حديد في العاصمة اللبنانية بيروت في بدايات عهد فؤاد شهاب الرئاسي. وقد مُنحت تلك الفرقة صلاحيات استثنائية كاملة، وقال لي العميد إده: استخدم العنف الذي سلكت عليه ورجالك المتمردين إبان الثورة، لكن ضد الزعران وفتوات الأحياء وقبضاياتها لقمعهم، ومنعهم من مخالفة القانون والنظام العام.

بعد تشكيل الفرفة 16 أخذتُ أذهب صباح كل يوم إلى منزل العميد في الصنائع، فأدخل إلى غرفة نومه، حيث أجده مستلقيًا في سريره ينتظر وصولي، كي أقرأ له التقرير الأمني اليومي الذي كان يرد إليه مكتوبًا بالعربية التي لا يجيد قراءتها ولا كتابتها. بعد أيام من مداومتي على الحضور إلى بيته سألته: لماذا لا تتعلم العربية يا عميد؟ علمني عيتاني، علمني، أجابني. فرحت أدربه على قراءة بعض المصطلحات الأمنية في التقرير، وكتابتها. فصار بعد أشهر يقرأ التقرير بنفسه بلا مساعدتي.

طوال أكثر من سنة من صلتي اليومية به، كان العميد إده يفاجئني دائمًا في سلوكه الشخصي والعام وزيرًا للداخلية في ظروف البلد الاستثنائية بعد الثورة: لم أشعر مرة أن في نفسه وسلوكه ما يشي بأدنى اعتبار منه للفروقات والحساسيات الطائفية. وحدهما القانون المدني العام والنظام الديموقراطي الجمهوري الدستوري كانا شاغله في سلوكه السياسي، إلى جانب إرادته الصارمة في فرض الأمن والاستقرار بعد ثورة أو هرْجَة 1958. ولو أن الطبقة السياسية اللبنانية كانت تتمتع بمزايا الترفع واحترام القانون وغياب النعرة الطائفية، التي كان يتمتع بها ريمون إده، لما وصل لبنان واللبنانيون إلى ما وصلوا إليه، لا في 1958 ولا في 1975 وما بعدها. لم يكن في نفسه مقدار ذرة من التعصب الطائفي أو النعرة الطائفية. وقد يكون ترفعه ونظافة كفه واحترامه القانون المدني حتى العبادة، إضافة إلى لسانه السليط في الحق وتسميته الأشياء بأسمائها الصريحة، في أساس عدم وصوله إلى رئاسة الجمهورية. ويا ليته وصل إليها، فلربما كان جنّب البلاد ما أصابها من خراب ومآس.

بدويّة غرامِه المراهق
حين كان يزور أملاكه في عانا البقاعية، كنت أذهب إلى العميد الوزير هناك، فأجده ناصبًا خيمة على تلة وسط تلك الأملاك الشاسعة في السهل الفسيح، وجالسًا وحده فيها يشرب قهوته الصباحية. أحيانًا كنت أجد بعض نساء البدو آتيات من مضاربهن القريبة إلى زيارته وضيافته في مضربه الأنيق، فأستهجن الأمر واستغربه.

ومرة، فيما كنت أحادثه في الخيمة، سألته: لماذا تحب التخييم والنزول في مضرب مثل هذا، وتستقبل فيه بدويات، يا عميد؟! التفتَ إليّ وسألني: هل تحب أن تعلم لماذا؟ وحين أجبته: طبعًا، طبعًا أريد يا عميد، قال: اسكت إذًا عيتاني، واسمع. بصوته المتوتر ونبرته السريعة، روى لي أنه أحب فتاة بدوية أيام فتوته ومراهقته في الاسكندرية التي ولد فيها سنة 1913. فوالده كان قد هاجر إلى مصر، كسواه من اللبنانيين هربًا من التسلط والعسف العثمانيين في جبل لبنان وبيروت قبل سنوات من الحرب العالمية الأولى (1914). وكان إميل إده محاميًا لامعًا ومشهورًا في الاسكندرية، قبل عودته منها إلى بيروت وتبوئه منصب رئاسة الجمهورية.

وكان ريمون الفتى المراهق يداوم منفردًا على نزهات يومية في أرض خلاء غير بعيدة من منزل أهله القريب من حديقة الاسكندرية الكبرى. وفي واحدة من نزهاته اليومية تلك رأى خيمة للبدو، فدخلها وصادف فيها بدوية تجلس وحدها، فجالسها وحادثها، ثم أخذ يزورها في نزهاته التالية، فأحبها حبًا جارفًا ملك عليه قلبه وجوارحه. لكن والده ما لبث أن علم بحال ابنه المتيم ببدوية المضرب القريب، فطلب من صديقه محافظ الاسكندرية مختار باشا أن يزيل مضارب البدو النازلين في تلك الأرض القفر قرب بيته وحديقة المدينة. وسرعان ما استجاب المحافظ طلب صديقه المحامي. وفي صبيحة يوم ذهب الفتى المتيم ريمون للقاء بدويته، فلم يجد في المكان أثرًا لخيمتها، فضربه حزن أليم أقام في نفسه طوال سنوات عشر. ثم قرر العزوف عن الزواج وفاء لحبه الأول تلك البدوية التي اختفت واختفى مضربها وصارت غرامه الأول والأخير. أما الخيمة البقاعية التي كان العميد ينزل فيها، فكانت مضرب حنينه إلى حبه القديم المتجمد والمستمر في قلبه، كعزوفه عن الزواج حتى نهاية حياته. استغربت قصتة وأعجبتني، وتذكرتني واقفًا في سنتي الأخيرة طالبًا في كلية المقاصد منشدًا مطلع معلّقة امرؤ القيس، فأنشدتُ العميد بيتها الأول: قفا نبك ذكرى حبيب ومنزلِ (...) بين الدخول وحوملِ. وعبثًا حاولت شرح البيت وتفسيره له، فيما هو يقول: خلص عيتاني، خلص، خبرني شو صار ببيروت مبارح. 

سيفونجية الحياة الليلية
كان العميد ريمون إده أنجح وزير داخلية عرفه لبنان. فهو كرّس مهابة رجل الأمن في الشارع بعد فوضى ثورة 1958 الدامية. والفرقة 16 التي أوكل لي أمرتها بلغت مهابتها ذروتها آنذاك. فما أن كان يذكر اسمها بين المخلين بالأمن حتى يدب الرعب في صدورهم. وحين كنت قائدها في تلك الأيام، ركزنا جهودنا على فرض الأمن في مناطق الترفيه والسهر والملاهي والمرابع الليلية، كالزيتونة والروشة وساحة الشهداء وسوق البغاء العمومي في وسط المدينة خلف السرايا الصغيرة مقر قيادة شرطة بيروت. وكان علينا أن نقطع دابر من كانوا يسمون "السيفونجية". والكلمة هذه مشتقة من كلمة "سيفون" الفرنسية التي تعني الجهاز الذي يتدفق منه الماء لتنظيف بيت الخلاء بعد استعماله. ودرج استعمالها في اللغة المحكية الخاصة للكناية بها عن لفيف من الفتوّات المتبطلين المتكسبين وفارضي الخوات على هوامش الحياة الليلية البيروتية، لقاء تقديمهم الحماية والخدمات لأصحاب الملاهي والبارات والمرابع في أماكن السهر، ورفع الأذى والتعديات عنهم. وغالبًا ما كان هؤلاء من أتباع قبضايات الأحياء البيروتية، أولئك الذين كانوا من أزلام زعماء السياسة ومحاسيبهم، وكان لهم باع طويل في ثورة 1958. وبعد خمودها راحوا يعملون في شبكاتٍ وعصب صغيرة متنابذة ومتناحرة على الخوات وتقديم الحمايات، حيث تتكاثر مرابع السهر والحياة الليلية البيروتية.

أتذكر أنني كنت أقود عشرة من رجالي، رجال الفرقة 16، فأنزل ليلًا إلى منطقة الزيتونة، حيث ملاهي الأوبرج والكيت كات والليدو وأمثالها الكثير في بداية الستينات، عندما أخذ شارع الحمراء يشهد بدايات ازدهاره، وافتتحت فيه مقاهي الرصيف ودور السينما الفخمة والحديثة.  كنت اتنقل من ملهىً آخر ومن مربع إلى آخر، مستطلعًا مراقبًا، حاملًا في يدي عصًا استعملها للإشارة بها عند الحاجة، لوقف عزف الفرق الموسيقية والاستعراضية على مسرح هذا الملهى أو ذاك، ليقوم رجال الدورية بالتفتيش والتحري، ولإشعار السيفونجية بأنهم تحت الرقابة الأمنية المشددة للفرقة 16 التي شاعت الأخبار عن جبروتها وانتشرت في المدينة كلها.

سحّاب فستان السيدة
من الحوادث الطريفة في تلك الأيام المجيدة للفرقة 16، أذكر أن مجلة تونسية، وربما مصرية، نشرت خبرًا يقول إن سيدة في بيروت عادت من السهرة إلى منزلها، فلم تجد خادمتها التي تركتها فيه، فاتصلت هاتفيًا بالفرقة 16 وأعلمت رجالها بالأمر واستنجدت بهم. ذهبت دورية من الفرقة إلى بيت السيدة، فساعدها واحد من عناصرها في فكِّ سحاب فستانها الذي تعذّر عليها الإمساك به وفكِّه عن ظهرها، بسبب غياب خادمتها.

روت الخبر صحيفة بيروتية، مما حمل مفتشية شرطة بيروت على التحقيق فيه، فجاء مفتش الشرطة العام ميشال ملكي لاستجوابي، سائلًا: هل أرسلتم حقًا رجال الشرطة إلى منزل سيدة لفكِّ سحاب فستانها؟! وبما أن الحادثة حصلت فعلًا، وكنت أنا من أرسل الدورية إلى منزل السيدة في منطقة الزيتونة، قلت للمفتش: وما الغريب في الأمر؟! فالسيدة اتصلت من بيتها، وليس من كباريه، وقام رجال الدورية بنجدتها ومساعدتها بكل أدب واحترام، وبناء على طلبها، بعدما لم تجد خادمتها في المنزل. وهذا من واجب رجال الشرطة الذين قاموا بمهمتهم على أكمل وجه.

ديوك الموارنة
من ارتدادات ثورة 1958 وذيولها في المناطق المسيحية، قيام تنافس حاد وكبير بين زعماء الموارنة السياسيين: الشيخ بيار الجميل، العميد ريمون إده، والرئيس الأسبق كميل شمعون. وكانت الزعامة والاستقطاب في الشارع المسيحي باعثهم على التنافس في الستينات، بعد خشيتهم من سياسة الرئيس الجديد فؤاد شهاب، وريبتهم من تقريبه إليه حزب الكتائب وزعيمها بيار الجميل وبعض الزعماء المسلمين للاعتماد عليهم دعائم وأركان لعهده الرئاسي وللدولة، واستبعاده كلًّا من الرئيس شمعون وصائب سلام، ونفوره منهما ونفورهما منه. في هذه الأجواء حصلت حادثة الأشرفية سنة 1960، وكان العميد ريمون إده قد استقال من وزارة الداخلية، واستغل الزعماء الموارنة الثلاثة أحد الأعياد -ربما يوم الجمعة العظيمة أو الحزينة- ليختبر كلٌّ منهم شعبيته أثناء الاحتفالات الشعبية الحاشدة في الكنائس. فأقيمت زياحات شاركت فيها حشود كبيرة من سكان الأشرفية وسواها من الأحياء المسيحية القريبة. وجاء البطريرك الماروني بولس بطرس المعوشي إلى الأشرفية، فشارك في الاحتفالات على غير عادة منه في مثل هذه المناسبات.

كان الجو مشحونًا على خلفية التنافس الزعامي الماروني الثلاثي: من منهم زعيم المسيحيين الأقوى والأبرز. ورغم أنني كنت "مشموسًا" في الشارع المسيحي -أي معروفًا بانشقاقي عن جهاز شرطة بيروت والتحاقي بثوار 1958 المسلمين- فقد أُمرت بالتوجه على رأس قوة من الفرقة 16 إلى الأشرفية لحفظ الأمن، في حضور قائد الشرطة المقدم عزيز الأحدب. لا أدري ما الذي حمل أحد رجال القوة الأمنية -وهو من عائلة هزيمة البعلبكية- على رمي قنبلة يدوية في ناحية من الشارع. فأدى انفجارها إلى قتل شخصين أو ثلاثة، وجرح آخرين، وإصابة شخصين بالعمى. ثم انهمر الرصاص غزيرًا من بين حشود المحتفلين في اتجاه القوة الأمنية. وحين رأيت المقدم عزيز الأحدب مجروحًا في وجهه، فقدت صوابي وجُنَّ جنوني، فأمرت باطلاق النار كي أؤمن انسحابنا من المكان.

المشانق للعيتاني والأحدب
أثارت الحادثة سخطًا واسعًا في الشارع المسيحي. فأُوقِفتُ واعتقلت على ذمة التحقيق في المحكمة العسكرية. وصدرت صحيفة العمل الكتائبية يتصدرها العنوان التالي: انصبوا المشانق للعيتاني والأحدب.

والحق أن دوافع الشرطي هزيمه ومن يقف وراء عمله، بقيت غامضة، فيما قام ضباط الفرقة 16 بالتستر على فعلته: وُضعت قنبلة في مخزن السلاح، بديلًا عن القنبلة التي فجّرها، لإيهام التحقيق والتفتيش بأن قنابلنا لا تزال على حالها كاملة، والقنبلة التي انفجرت لا علاقة ولا علم لنا بها.

وانتشرت في تلك الأيام شائعات كثيرة تقول إن حادثة الأشرفية جرت في إطار عزم الرئيس فؤاد شهاب على تقويض جهاز الشرطة وعسكرته وإلحاقه به.

(توضيح من "المدن":الحكايات الواردة على لسان الراوي الراحل مختار عيتاني، هي على مسؤوليته ودقة ذاكرته، لا سيما منها بعض الوقائع الخاصة بالراحل ريمون إده الذي قيل، خطأ، انه لم يكن يعرف القراءة والكتابة باللغة العربية..يضاف الى ذلك، الحاجة الى التدقيق التاريخي في واقعة مهرجان الاشرفية وخلفياته وعواقبه)      

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها