الإثنين 2022/12/19

آخر تحديث: 19:56 (بيروت)

قطر والخليج ما بعد مونديال 2022

الإثنين 2022/12/19
قطر والخليج ما بعد مونديال 2022
سيكون مونديال قطر 2022 دالاً على تحولات واسعة (Getty)
increase حجم الخط decrease

عندما أقيم مونديال إسبانيا عام 1982، كان ذلك تدشيناً للتحول الديموقراطي الذي شهدته البلاد، بعد موت الديكتاتور فرانكو. فتحُ أبوابِ البلاد أمام العالم وخروجُ الإسبان من عهد الصمت والكآبة، حدثا على نحو احتفالي في ذلك المونديال، قبل أن تنضم إسبانيا إلى السوق الأوروبية المشتركة آنذاك.

في العام 1986، كان الموعد مع المكسيك، المونديال الذي ستعلن فيه أميركا اللاتينية بدء صفحة الدمقرطة ونهايات الحروب الأهلية والانقلابات العسكرية، وانطلاق العافية الاقتصادية.

كان المونديال الإيطالي 1990، عبارة عن احتفائية كبرى بتوحيد ألمانيا والقفزة الأوروبية الهائلة بسقوط الستار السوفياتي الحديدي، وابتداء عصر العولمة والإعلام وتكنولوجيات الصورة. ولا يحيد مونديال أميركا عام 1994 عن هذا المسار الذي يضع الولايات المتحدة كزعيمة للعالم الرأسمالي وقائدة لعصر التكنولوجيا واقتصاد السوق، وثقافة الميديا العابرة للقارات.

ولن تتأخر فرنسا في اللحاق بالركب، لتستضيف مونديال 1998، وتدخل نادي الكبار كروياً ظافرة بالبطولة لأول مرة.. لكن أيضاً لتعلن عن أوروبا جديدة، ما بعد الهوية القومية، أوروبا المهاجرين، أوروبا التعددية الدينية والإثنية والثقافية. كانت صورة زين الدين زيدان على قوس النصر في باريس رمزاً لتصفية حساب مع التاريخ ستجريه فرنسا الجديدة، لتصالح ذاكرتها وتصافح مستقبلها.

جاء المونديال عام 2002 لأول مرة إلى القارة الآسيوية، كإقرار لا شك فيه بالتحول العظيم في العالم، احتفال باذخ بـ"المعجزة الآسيوية" ونمورها، اليابان وكوريا الجنوبية مثلتا أفضل تمثيل تلك المعجزة لا في صنع السيارات أو الأدوات الكهربائية والإلكترونية وحسب، بل في التقدم الحضاري والثقافي والتقني والإسهام الجوهري في إعادة تشكيل العالم المعاصر وصورته. لحظة ازدهار استثنائية. فالقرن الجديد المبتدئ للتو، سيكون آسيوياً إلى حد بعيد.

وجاء مونديال ألمانيا 2006 كما كان متوقعاً: التعبير المتقن لذروة "البومينغ"، الانتعاش الكبير لأوروبا وللتطور الصناعي والتكنولوجي. لكن الأهم، أنه مونديال التعافي من صدمة 11 أيلول 2001، التي كادت تقهقر العالم إلى زمن الانغلاق والخوف وتعطب روح العولمة. كان بهذا المعنى مونديال إعادة الروح للسياحة، لإيقاع اختلاط الشعوب والسفر الذي بات مفتوحاً بسهولة لمئات الملايين من البشر منذ مطلع التسعينات. لقد انتصرت كرة القدم بوصفها التعبير البسيط والواضح عن "المشترك الإنساني".

سيتأكد ذلك على نحو أجمل وأكثر نبلاً عام 2010، بمونديال جنوب إفريقيا، وبعبارة أخرى، مونديال نيلسون مانديلا. إفريقيا المنتصرة على العنصرية، الواثقة بالعدالة والمساواة. وقد تولت ملاعب كرة القدم حينها إيصال تلك الرسالة إلى كل العالم: حان وقت نهاية كل أشكال التمييز والظلم.

كان مونديال برازيل 2014 كروياً بالدرجة الأولى، لكنه أيضاً كان تكريساً لكل ما قدمته المونديالات السالفة الذكر: كرنفال عالمي أكثر حبوراً وطمأنينة، انسجام بديع لخليط الثقافات والألوان واللغات والطقوس.

مونديال 2018 كان سقطة أخلاقية، أشبه بالانتكاسة لروح كرة القدم. كان بمثابة "رشوة" مفضوحة للديكتاتورية، مخاتلة سياسية سيئة إرضاء ومهادنة للدب الروسي ولعدوانيته، التي كانت ماثلة في سوريا وأوكرانيا وجورجيا. لقد جازفت "الفيفا" بتراث اللعبة ومناسبتها، وارتضت "الاستثمار" الخبيث من قبل بوتين لهذا الحدث من أجل تبييض صورته.

ربما ما من تعويض إزاء هذه الانتكاسة الفضائحية في تاريخ المونديال.. إلا هذا المونديال التاريخي الأخير في قطر، الذي جاء استثنائياً بكل المقاييس، لعباً وفرجة، سياسةً وثقافةً واقتصاداً. النسخة الأجمل ربما منذ مونديال 1950 (الذي يعتبر "البداية الفعلية" لعالمية الحدث). ما حدث على أرضية الملاعب، أي المباريات نفسها، وفي المدرجات، وعبر الصورة التلفزيونية، وفي شوارع الدوحة، كان عبارة عن سيل من المفاجآت من العيار الثقيل.

لنترك المفاجآت الكروية جانباً، فهي باتت معروفة ومحفورة في ذاكرة الذين تابعوا الحدث. ما يهمنا هنا هو ما حققه مونديال قطر بمفاجآته الأخرى. بداية، ليس هيناً إطلاقاً تصور تنظيم هكذا حدث في بلد إسلامي، عربي، خليجي. ثمة تحفظات ثقافية ودينية واجتماعية لا عدّ لها، إن من قبل المسلمين والعرب والخليجيين، أو من قبل من هم ليسوا كذلك. وظهر ذلك عند الجمهورين، إما باستدعاء التاريخ البعيد والقريب (من الحروب الصليبية إلى الأندلس فزمن الاستعمار، وصولاً إلى تنظيمات الإرهاب وما شاكل) أو بالتحامل الإعلامي وسجالات السوشيال ميديا.

المفاجأة هنا أن دولة قطر كانت وفق كل مقاييس أعرافها وتقاليدها وثقافتها، رحبة على نحو تفوقت به على الجمهورين، وتغلبت على عصبيتهما معاً، ومنحت مثالاً في الإقبال على المختلف والمغاير واستيعاب ذاك التنوع الثري للبشر والاحتفاء به.

وبهذا السياق، كانت المفاجأة بأن نرى قطر أيضاً بلداً "سياحياً"، بكل ما تحمله الكلمة من دلالات أساسية في المجتمعات الحديثة. مشهد المسيرات الاحتفالية في شوارع الدوحة، بعد المباراة النهائية وحفل التتويج، يستحق التوقف عنده طويلاً. ما حدث في الشوارع من مظاهر حماسة وبهجة عموميين، وتحول الدوحة في تلك اللحظة إلى فضاء كرنفالي، هو أمر سيترك أثراً كبيراً في ذاكرة تلك العاصمة، وسيتيح لاحتمالات ثقافية واجتماعية ما كان يمكن توقعها بهذه السرعة.

وبهذا المعنى، ثمة حقبة أبلغ وأعمق وأشمل من تجربة دبي سنراها على الأرجح في مدن الخليج كلها بالتتابع.

ولذا، المفاجأة المهمة أيضاً أن مونديال قطر كان من أكبر الإنجازات "الديبلوماسية" إذ انقلب "الجفاء" بين دول الخليج إلى تلاقٍ شعبي وسياسي (وإعلامي)، حتى بدا بطريقة سخية متعمدة، كأنه مونديال لكل أهل الخليج كما هو مونديال كل العرب.

إذاً، وكما كل مونديال، سيكون مونديال قطر 2022 دالاً على تحولات واسعة النطاق، لن يبقى معها أي من كل الكليشيهات والأفكار المسبقة والتصورات الجاهزة التي كانت تصاحب الخليج ودوله ومجتمعاته، من جهة، ولن يكون الخليج يشبه حاله ما قبل 18 كانون الأول 2022، من جهة أخرى.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها