الإثنين 2022/10/03

آخر تحديث: 00:01 (بيروت)

"نهر البارد" وتجار قوارب البشر.. سنوات العزلة والقتل الممنهج

الإثنين 2022/10/03
"نهر البارد" وتجار قوارب البشر.. سنوات العزلة والقتل الممنهج
قتل سياسي واقتصادي وأمني واجتماعي ممنهج (المدن)
increase حجم الخط decrease

يجلس الفلسطيني واصف عبد العال حانيًا ظهره من شدة الحزن، يُسبل عينيه كما إنحناءات جبينه المجعد. وكأن هذا العمر الطويل الذي قضاه داخل مخيم "نهر البارد"، لم يكتفِ بحفر قلبه قهرًا وخيبات.  

لم يحسب الرجل العطوف على أبنائه، أن يصل به المطاف لاستقبال جثمان ابنته سهى (34 عاماً)، بعدما عثر عليها أمام شاطئ طرطوس من دون أطفالها الثلاثة، الذين ماتوا غرقًا أيضًا وأكبرهم يبلغ 12 عاماً، فيما نجا زوجها محمد إسماعيل بأعجوبة وفق وصفه عمه، وكانوا على متن ذلك القارب المأساوي، الذي انطلق من شاطئ المنية الأربعاء 22 أيلول الفائت، ثم وُجد غارقًا الجمعة 24 أيلول.  

"كنت أنتظرها الثلاثاء بالسهرة مع أطفالها لتناول طبق المجدرة الذي تعشقه من يدي والدتها، لكنها اتصلت بي طالبة السماح، وأخبرتني أنها بالمنية تنتظر انطلاق المركب مع أطفالها وزوجها". ثم يقول عبد العال لـ"المدن": "لا تحتمل سهى رؤية دموعي، حاولتْ الهرب عدة مرات برحلات هجرة، لكنها كانت ترضخ لضغوطي بمنعها خوفًا عليها. هذه المرة كانت مصرة. فذهبوا، من دون أن يصلوا إلى أوروبا، ومن دون أن يعودوا إلى المخيم".

واصف عبد العال وصورة ابنته وأحفاده

هنا في مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين، تتوارى الكثير من الحقائق حول قصة غرق القارب، الذي سجل أعلى حصيلة ضحايا من رحلات الهجرة غير النظامية التي انطلقت من لبنان. فماتت غرقا أكثر من مئة ضحية من اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين، ونجا نحو 20 فقط، فيما هناك أكثر من 30 شخصاً بعداد المفقودين، حيث كان يحمل المركب الصغير وغير الآمن أكثر من 150 مهاجرًا. وكان لـ"البارد" حصة كبيرة من هذه الكارثة الإنسانية، فهناك نحو 35 فرداً من رجال ونساء وأطفال، وبينهم نحو 12 مفقودًا، لم يعثر عليهم لا بين الناجين ولا بين الضحايا.  

روايات أهل الضحايا  
وحول عبدالعال، وهي العائلة التي سقط منها الكثير من ضحايا رحلة الموت، يتحلق رجال ومنهم شهود على قصة مهاجري "البارد" مع المهرب بلال ديب (الملقب بأبو علي نديم وشقيقه يوسف ورفاقهما المسلحين). ويؤكدون ما سبق أن كشفته "المدن"، حول إبحار القارب تحت تهديد المهرب للضحية القبطان الفلسطيني أسامة حسن بالسلاح (راجع "المدن").  

ومن داخل منزله المتصدع على إحدى تلال المخيم المطلة على بحر العريضة الحدودية مع سوريا، يُخفي الفلسطيني محمد، والد صفاء حماد زوجة أسامة، الدمع. ويروي لـ"المدن" بعض تفاصيل آخر المحادثات التي جمعتهم معهما قبل غرق القارب؛ وفيما عثر على جثماني صفاء وأسماء، ما زال أطفالهما الأربعة بعداد المفقودين.  

ويقول محمد العائد من مستشفى طرطوس بحثًا عن جثامين أحفاده، أن صهره باع ما يملك لتسديد ما يناهز 10 آلاف دولار للمهرب ديب، وكان من المفترض أن يساعد بقيادة المركب نظرًا لخبرته 20 عامًا بالبحر. فـ"أجبره ديب على قيادة المركب الصغير بحمولة زائد ويختلف عن المركب الكبير الذي أرسل لهم صوره وقاموا بمعاينته، وكان بين خيارين: إما قيادة المركب، وإما سيقتل ديب ومرافقيه أولاده أمام عينيه بعد أن وجه المسدس نحوهم.. فكانت الكارثة"، وفق الأب والجد المفجوع. 

وكلما تقدمنا في المخيم الذي ترضخ كل أطرافه ومداخله لسلطة الحواجز الأمنية التابعة للجيش، تظهر فصول المأساة. فمعظم الفلسطينيين الذين قضوا بهذا القارب، هم أولاد أو أقارب أو جيران لأهل البارد.  

وتشير معلومات ميدانية رصدتها "المدن"، أن المهرب ديب، وكعدد كبير من كبار مهربي عكار، يحاولون تعزيز سوق هجرتهم داخل مخيم "البارد"، بخداع شبابه، بدفعهم لاستدانة مبالغ كبيرة أو بيع أملاكهم الزهيدة مقابل الهجرة بالبحر، ويقدمون لهم عروضًا وخصومات، لإغرائهم بالهرب من "سجن المخيم" الكبير. وبعد أن يوهموهم أنهم سيبحرون على متن قوارب مجهزة، يقومون باستغلالهم وتشغيلهم، إما كسماسرة أو بالحمولات أو بالمراقبة الليلية للشاطئ أو بقيادة بعضهم للمراكب.  

لكن، "يأس شبان المخيم وشعورهم بالضيق والعزلة والعجز عن تأسيس مستقبلهم، مقابل استحالة عودتهم إلى وطنهم، يدفع بهم لرمي أنفسهم بحرًا"، وفق ما يقول أحد ناشطي البارد.  

وعند بوابة منزلها، تجلس زوجة سامر وحيد مفجوعة بموته غرقًا مع نجلها أحمد البالغ 15 عامًا. تختنق بكاءً وهي تحمل صورتهما، وتقول لـ"المدن": "الكلام لا ينفع. هؤلاء قتلوا ولم يغرقوا. قتلتهم ظروفهم وسوء تصرف كل الفصائل والمنظمات الدولية قبل أن يقتلهم المهرب، بعدما حلم ابني وزوجي بالخلاص عن طريقه".  

مظلومية "البارد": من الموت إلى الموت  
هنا في مخيم "نهر البارد"، لا شيء يوحي أن أهله تجاوزوا بالكامل تداعيات معارك 2007 بين الجيش اللبناني و"فتح الإسلام"، والتي دمرته وهجرت أكثر من 27 ألفاً من أبنائه. ومنذ 15عامًا، يُكابد أهالي "البارد" وجعين: وجع اللجوء الفلسطيني وما يعنيه في لبنان تجريدهم من معظم حقوقهم المدنية، وعدم السماح لهم العمل بمختلف المهن، مقابل تلاشي تقديمات الأونروا إلى حدودها الدنيا. ووجع دفع ثمن سياسي وأمني واجتماعي لمعارك لا ذنب لهم فيها سوى أنها جرت على أرضهم.  

وجولة واحدة في المخيم تكفي لتلمس حجم الاختناق والتضييق، بدءًا من فكرة دخوله تحت رقابة أمنية مشددة تفرضها حواجز الجيش تستلزم أذونات وتصريحات، ما يعزز العزلة عن محيطه العكاري، وكأن على أهله دائماً أن يقدموا صك براءة ذمة.  

ورغم موقعه الاستراتيجي لتوسطه عكار وقربه من الحدود السورية، لم يستعد "البارد" دوره الاقتصادي التاريخي منذ نشأته عقب النكبة الفلسطينية في العام 1949، حين كان لعقود مقصدًا للتجار وحتى "مهربي" بضائع الإسمنت والتبغ وغيرها إلى سوريا، كما كان سوقًا جاذبًا لأهالي الشمال.  

أما اليوم، فيبدو "البارد" مسلوبًا من الحياة، بلا روح ولا نبض: أطفاله متروكون للهو بالشوارع، شبابه يفترشون الأرصفة والمقاهي بلا جدوى، ونساؤه يتنقلن من محل إلى آخر بحثًا عن خضار ومواد غذائية بثمن بخس.  

الجميع قتلنا
فهل المهرب بلال ديب و"تاجر البشر" كما يصفه أهل البارد، هو وحده من قتل أبناءهم؟  

بالطبع لا، "بل الجميع قتلنا"، كما يقول أحد أقرباء الضحايا لـ"المدن". هو قتل سياسي واقتصادي وأمني واجتماعي ممنهج، له قصته التاريخية الراسخة بجذور الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لكن في مخيم "نهر البارد"، وإضافة إلى واقع اللجوء المأساوي في لبنان، بدأ قتل أهله منذ أطلقت الرصاصة الأولى في 2007. ثم منذ اتخذت الأونروا على عاتقها عملية إعادة إعمار المخيم التي لم ينفذ أكثر من نصفها. ثم بضياع الكثير من قيمة 122 مليون دولار خصصتها الدول المانحة بمؤتمر فيينا في العام 2008 لإعمار المخيم، ثم بفرض حالة أمنية محيطة بالمخيم بترت أوصال التلاقي مع محيطه، وغيرها الكثير. حتى أصبح أهل البارد، سواسية مع شريحة واسعة من أهل الشمال اللبنانيين، الذين يتوقون لرمي أنفسهم بالبحر، برحلات ترقى لمستوى الانتحار الجماعي، هربًا من كل هذا الجحيم.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها