الأحد 2022/01/23

آخر تحديث: 12:14 (بيروت)

الحريريّة ومأساة البيارتة: عراة من الانتماء في منافي بشامون

الأحد 2022/01/23
الحريريّة ومأساة البيارتة: عراة من الانتماء في منافي بشامون
في عراء بشامون وعرمون وتلال خلدة.. لا مثال ولا انتماءٍ ولا هوية شخصية ولا أهلية (علي علوش)
increase حجم الخط decrease
روى المادة الأساسية من هذه السيرة العائلية- الاجتماعية والشخصية شابٌ بيروتي ثلاثيني. ومدارها المجتمع البيروتي الصامت، وقصته المأسوية مع الحريرية. وهي تتناول أيضًا أحوال فئات بيروتية تشعر أن سنوات "المجد" الحريرية التي تجلّت بالنهوض وإعادة إعمار وسط بيروت والبعثات التعليمية إلى جامعات أوروبا، كانت ضئيلة العوائد عليهم. فالفئات ما دون الوسطى والشعبية البيروتية، ترى أن النهوض والازدهار اقتلعاها من ديارها في بيروت ونفياها بصمت إلى عراء العمران "البرِّي" والموحش في عرمون وبشامون (راجع "المدن").

وبعد حلقة ثانية وثالثة ("المدن" السبت 15 ، والثلاثاء 18 كانون الثاني الحالي)، هنا رابعة عن عري بيارتة بشامون من الانتماء والهوية والذكريات في إقامتهم هناك. والسيرة- الشهادة هذه مروية في صيغة المتكلم، واستُدخلت في سياقها هوامش وتعليقات قد تملأ بعض فجواتها.

عودة إلى الشتات والمنفى
عاد والدايَّ -وهما من عائلتين بيروتيتين عامّتين، ووُلدا في النصف الثاني من الخمسينات في بيروت- إلى مدينتهما في أوائل عقد التسعينات من فرنسا، حاملين شهادتين جامعيتين عاليتين من إحدى جامعاتها، بعد مكوثهما في باريس معظم عقد الثمانينات. لكن إقامتهما لم تستقر في بيروت، بل ظلا يتنقلان على أطرافها من بيتٍ إلى آخر، شبه مهجّرين: استأجرا لسكنهما وإنجابنا، نحن أبناؤهم الثلاثة، بيوتًا رخيصة في الطريق الجديدة والأوزاعي. وكلما ارتفع بدل إيجار واحد منها، انتقلا إلى آخر يناسب دخلهما المحدود. وأخيرًا لم يستقر المقام بنا إلا في شقة اشترياها بالتقسيط سنة 2000 في بناية ببشامون، منفى أو مهجر بيارتة أهل الضعف وقلة الحيلة والاقتدار، ومنهم معظم أعمامي وعماتي، أخوالي وخالاتي. وهم وسواهم لاذوا بدفء علاقات القرابة وشبكاتها في ذاك المنفى، ليدفعوا عنهم بها شعورهم الممضّ بالاقتلاع من ديارهم البيروتية وعزلتهم أو وحشتهم في بشامون.

لكنني أظن أن هذا الشعور أقلُّ وطأة بأشواط على والديَّ وجيلهم البيروتي منه عليَّ وعلى جيلي، أنا من عادت أمي من باريس لتلدني بين أهلها في بيروت سنة 1987، فنشأتُ فتىً مراهقًا وشابًا -شأن أخي وأختي الأصغرين- في كنف عائلة نواتية مشتتة الإقامة، لا هي ولا شبكاتها القرابية المقتلعة من "جذورها" البيروتية و"تراثها وإرثها" البيروتيين زودتني بما يدفع عني شعوري المقيم بفراغ ووحشةٍ حسّيتين، بصريتين ونفسيتين، يملآن المكان والوقت في بشامون.

والحق أنني لا أدري لماذا أشدُّ عليَّ وطأةُ شعوري بالاقتلاع من بيروت من ما على أهلي، رغم أنني لم أعش ولا أقمتُ فيها إلا مشتّتًا في طفولتي وصباي، وذكرياتي عنها في منزلة الصفر تقريبًا، ولا تنطوي على أكثر من شعوري بالكآبة. وهذا على خلاف أهلي وجيلهم الذين نشأوا وشبّوا في بيروت، فعرفوها واختبروا العيش في المجتمع البيروتي في زمن ما قبل الحروب الأهلية (1975- 1990) وفي أثنائها، قبل رحيل أمي وأبي إلى فرنسا. لذا يُفترضُ أن يراودهما، وأمثالهما المنفيون إلى بشامون، حنين جارح إلى بيروتهم واجتماعها وذكرياتهم فيها. لكنني أظن أن حنين والديَّ إلى بيروتهم تلك انطفأ وترمّد، مثل ذكرياتهم المتقادمة لكثرة السنين والتغيُّرات والانقطاعات والعثرات التي انهالت وتراكمت على بيروت في الربع الثالث من القرن العشرين وبعده، فمحقت تلك الذكريات ومحقت أيضًا الزمن والإطار الاجتماعيين لتبادلها وتراويها. فمَنْ من البيارتة، أو سواهم من أهل لبنان، يروي ذكرياته اليوم لأحدٍ؟ وإن أراد أو رغب أن يرويها، فالأرجح أنه لن يجد من يريد أو يرغب في الاستماع إليها.

بلا ذكرياتٍ ولا حنين
ليس والدي، بل شخص آخر غير بيروتي بالولادة ولا بالنسب، بل بالإقامة والهوى والتجربة، من أخبرني مرةً أن موجةً من حنين ثقافي وفني اجتاحت بعض هواة جمع الصور والذكريات عن بيروت القديمة وعرضها، في خضم الحروب نهاية السبعينات. وكان ذلك الحنين من أعراض الاحتجاج الصامت أو الموارب على الحروب، ومن علامات اندثار بيروت وزمنها ما قبل الحربي.

ثم جاء زمن إعادة البناء والإعمار في التسعينات وما بعدها، فلم يرَ المشروعُ الحريري من بيروت سوى وسطها القديم الذي دمّرت الحروب أجزاء منه، وتركت بعضه المهجور ملجأً خربًا لمهجّريها غير البيارتة في معظمهم. وجعل الحريري ذاك الوسط درة مشروعه كله للاستثمار والتسويق العقاريين في بيروت لبنان وبلدان الخليج العربية. أما بيروت الأحياء والضواحي خارج وسطها، فدهمتها هبّة عقارية عاصفة، اقتلعتْ ما أبقاه الزمن الحربي من عمرانها القديم، ونفتْ من البيارتة إلى بشامون وأمثالها غير المقتدرين ومن تعوزهم الخبرة والتدبير للاستفادة من تلك الهبّة العقارية.

ومشروع إعادة بناء الوسط وإعماره الذي اتخذ شعارًا له "بيروت مدينة عريقة للمستقبل"، سرعان ما شاءت أقداره اللبنانية العاثرة أن ينقصف ويتلاشى على دفعات متتالية.. وها هو ذاك الوسط أخيرًا متحف للصمت والعتمة، بلا ذكرياتٍ ولا حنين. فبيروت ولبنان كله اليوم ليس سوى بلاد الخسارات والموات الماحق، حتى للحِداد والذكريات والحنين.

بلا هوية ولا انتماء
وهذه هي حال أهلي في بشامون: ذكرياتهم عن بيروت وطفولتهم وصباهم وشبابهم طواها الزمن، فتجمّدت وماتت. وحين يأتون إلى بيروت من منفاهم، لا يجدون فيها أي ملمحٍ أو معلمٍ يذكّرهم بصور ماضيها وماضيهم فيها. لذا يتجوّلون في شوارعها ونواحيها وأحيائها كأنهم زائرون، ويعودون إلى حيث جاؤا بمنفاهم، بلا ذكريات ولا حنين.

ووالدي لا يزعجه ذلك، بل هو يفضّل الابتعاد من بيروت والإقامة والعيش في عزلة بشامون، منصرفًا إلى كتبه الكثيرة، ومنها التراثية الإسلامية. وهو متدين تدينًا عاديًا شخصيًا شعاره: الإسلام قول يصدّقه العمل. صلاته وصيامه تعبّد شخصي أو ذاتي وعاديّ، مثل عروبته التي لا تميل إلى زعيم أو حزب، ولا حتى إلى جمال عبد الناصر. وهو ينفر من الأيقونات أو العقائد السياسية. كأنه عاش حياته بلا انتماءٍ ولا مثال، سوى فكرته الخاصة أو الشخصية عن الأخلاق. وغالبًا ما يفضّل على مخالطة الناس الانصراف إلى كتبه وقراءاته والتعليم الذي اتخذه مهنةً له منذ عودته من فرنسا.

ووفّر لنا والدي، نحن أبناء أسرته النواتية -إلى تعليمنا في مدرسة خاصة هي مدرسة مار الياس بطينا القريبة في وطى المصيطبة- مكتبة نقلها من بيت إلى بيت، كأنها ثروته وثروتنا الأسرية الوحيدة، ليستقر مقامها أخيرًا في بيتنا ببشامون. ولتكون لنا هناك، نحن أولاده، تعويضًا عن القطيعة في ذاك المحيط السكني الموحش. ولعل تلك المكتبة وكتبها ضاعفت قطيعتي وزادتني انكفاءً على الداخل البيتي. وكتب تلك المكتبة متضاربة ويغلب عليها التراث الإسلامي. وكان عليّ أن أطالع بعضها بلا دليل ولا إرشاد يسلِكانها في سياق أو نهج. وقد قرأت وحدي كتبًا منها بلا تدخّل والدي.

ولما هبّت عليّ المراهقة وجدتني فتىً وحيدًا في تلك العزلة البيتية، وفي المحيط السكني الموحش في عراء بشامون، بلا مثال ولا انتماءٍ ولا هوية شخصية ولا أهلية جامعة، سوى انتمائي إلى أسرتي النواتية المنكفئة، بلا إرثٍ ولا ماضٍ، بل حاضرٌ مقيم لا ينقضي في فراغ متجمّد.

وهكذا نفرتُ من بشامون وكرهتها. لكن إلى أين المفرُّ منها ومن فراغها؟ ربما راودتني رغبة في أن يكون لأهلي انتماء ما، إلى جماعة أو حزب، فأتخذ لي منهما دليلًا وشاغلًا وانتماءً. وحتى مدرستي مار الياس في وطى المصيطبة، لم يكن لي فيها أترابًا أو رفاقًا مقيمين في بشامون المنقطعة عن بيئتي المدرسية. وماضي أهلي البيروتي الصامت منقطعةٌ صلتي به، ولا رفاق لدي من أبناء حيّنا في بشامون، حيث لا حيَّ أصلًا ولا رصيف، وبنايات في العراء، بلا عابرين إلا في السيارات على طرقٍ بلا ملامح ولا علامات استدلال. وبيروت لا أعرفها إلا عابرًا مشاهدًا في سيارة والدي. وكان عليَّ أن أصبر سنواتٍ لأتعرّف إليها وحدي، بعدما صرتُ طالب هندسة معماريةٍ في جامعة بيروت العربية. وحساسيتي المعمارية والمكانية ضاعفت نفوري من بشامون وغربتي فيها، حتى رحلتُ عنها وأقمتُ وحدي في مناطق عدة من بيروت، وأخيرًا حلَّ بي المقام في الدكوانة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها