الأربعاء 2021/09/29

آخر تحديث: 14:19 (بيروت)

غثيان في طابور بنزين.. وابتهالات صاحب المليارات

الأربعاء 2021/09/29
غثيان في طابور بنزين.. وابتهالات صاحب المليارات
وكنت كشخص يتحلل بطابور البنزين كمثل تجارب المعتقلات أو السجون (علي علّوش)
increase حجم الخط decrease
ماذا يبقى في الذاكرة الفردية والجمعية من غثيان الصيف الذي انقضى، ليستمر الغثيان على حاله، ويُقال إنه خفت قليلًا في مستهل الخريف البادئ قبل أيام؟ ولربما بدأنا نتعوّد عليه، نتدبره ونغرق فيه كأنما من سنين، وحتى ينعطف بنا القدر الغامض إلى ما لا ندري ولا نعلم.

قد لا يبقى سوى القليل من الكلمات الطائشة والمشاهد والذكريات المشتتة التي لم ولن تعثر على مرتكز متين يجعلها قابلة للفهم والسرد والرواية والتأريخ والتداول في علانية عامة تبدو مستحيلة.

ماذا تبقى، مثلًا من 15 سنة من ما سميناه حروبنا الأهلية، ومن نحو 30 سنة تلتها، وسميناها زمن السلم الأهلي وإعادة الإعمار والوفرة، قياسًا على زمن الحروب، وعلى قرابة السنتين الأخيرتين اللتين سميناهما زمن الانهيار والقلّة، ومن عناوينهما: وباء كورونا، الدولار، المصارف، الودائع، الدعم ورفع الدعم عن السلع والحاجات الأساسية، العتمة وانقطاع الكهرباء، المولدات الخاصة، المازوت، البنزين وطوابير البنزين. وقد يؤرَّخ لهذا كله بمنعطف 17 تشرين الأول 2019.

أعلام المنعطف الماحق
ومن أسماء العلم أو الأعلام لهذا المنعطف الماحق: ميشال عون وجبران باسيل وحسن نصر الله في المرتبة الأولى. ونبيه بري وسعد الحريري وسمير جعجع.. ووليد جنبلاط القلق وشبه المنسي، والهامشي المطمئن في إقطاعته سليمان فرنجية، في المرتبة الثانية. وهناك وكلاء أو موظفو أركان المرتبتين الأولى والثانية، مثل حسان دياب ومصطفى أديب وسواهما من أمثالهما في المرتبة الثالثة.

وأخيرًا هناك اسم لا يزال غامض المصير: نجيب ميقاتي الذي بلغت ملايينه أو ملياراته شأوًا ذائع الصيت محليًا وعالميًا. وأخذته بعد خروجه إلى باحة القصر الجمهوري غصّة أو رعشة رمته على حافة الدمع فرحًا بتشكيله الحكومة، وشفقةً على أطفال لبنان الرضع وأمهاتهم، بعدما عزَّ عثورهم على الحليب. وانتشرت له في النهار التالي صور كثيرة –منها واحدة في أحد مساجد بيروت– يرفع فيها ذراعيه، عبارة منه عن ابتهال ديني وعن شعائر إيمان موروث، ينطوي على شكر من مكّنهم المولى العلي القدير من أن تمتلك أيمانهم (أي يدهم اليمنى) الثروة والجاه والعز. كما ينطوي ابتهاله أيضًا على فقر لغوي أو تعبيري يعجِزُه عن قولٍ مفهوم يناسب مشاعره المضطربة الملتبسة بين فرحته المكتومة بمنصبه في بلد الركام، وعدم عثوره على كلمات مناسبة لمخاطبة أهل الركام من منصبه ذاك.

فجر الضياع
ما لنا وهذه الأسماء في مطالع اعتدال الخريف هذا المبلل بغثيان الصيف.
فلنصف، مثلًا، غثيان ساعات ما قبل ظهيرة في طابور سيارات للحصول على البنزين.

يقظة الفجر بطعم الرماد. ماء الفجر الرمادي على اليدين والوجه والشعر. ارتداء ثياب مدعوكة بتعب البارحة المكتوم الأصم. نظرة خاطفة إلى الوجه في المرآة، كأنما ضوء عَكِرٌ تخثر من نومٍ بائتٍ في العينين، ويذكّر بذاك الصمت الجلاتيني في فجر من نهارات ميليشيات الحرب. خطوات صمّاء على الدرج النازل إلى مدخل بناية. يقظة نواطير البنايات السوريين وزوجاتهم في غرف مداخل البنايات. رائحة طبخ طازج تسللت من باب مشقوق قليلًا أمامه أحذية تذكر أيضًا بفجرٍ حربي قديم، عندما كانت تتكوم الثياب في مقار المقاتلين في أحياء المدينة.

في السابعة والنصف دورتان في السيارة في شوارع حول محطة بنزين. وحيرة في أي من الطوابير أوقفُ سيارتي. محاولة احتيالٍ لتجاوز سيارتين أو ثلاثة في الصف. خجلٌ مقيت للحظات قبل العدول عن المحاولة، وهجوم رغبة في مغادرة المكان والتخلي عن الانتظار والعودة.. إلى أين في هذا الفجر الضائع أو الضياع في الفجر؟

تسبقني سيارات وتصطف في الطوابير. رجلان أو ثلاثة يتبرعون بحماسة مقيتة لتنظيم السيارات المتكاثرة. أحدهم ينصحني بمكان أوقف فيه سيارتي. كلنا سنصل، يقول، فيزداد مقتي للكلام. أفكرُ بأحاديث البارحة عن الهجرة. على شاشة الهاتف أستعرض أسماء كثيرة، وأفكر بأصحابها الذين لم أتصل بكثيرين منهم منذ أشهر: أين هم الآن، وماذا يفعلون؟ أستجيب نصيحة الرجل. ألتفتُ إلى السيارات تتكاثر خلفي، فتدهمني فجأة لحظة انتصار وضيع وسرور مقيت لأنني أمامهم وسبقتهم في الاصطفاف في الطابور، وأكتمُ شعورًا عابرًا ومقززًا بالحسد حيال سائقي السيارات الواقفة أمامي. وأحسد بألمٍ العابرين سيرًا على أقدامهم على الأرصفة. أحدّق في وجوههم، فإذا بها كئيبة مثل وجهي.

ومضت نحو ساعة بين خروج من السيارة ودخول إليها وقيادتها أمتارًا في الصف المتحرك بطيئًا بطيئًا. أتذكر سلحفاة يربيها أحدهم في صندوق خشبيي على شرفة بيته، وتمضي معظم الوقت متدثرة بقطعة من موكيت. أُشبِّه طابور السيارات بطابور من السلاحف. ألمحُ امرأة من بعيد تتقدم نحوي، جارَّةً  كلبين أمامها على الرصيف. تهيأ لي أنني أعرفها، لكن لم أقدر على إدراك أين وكيف ومنذ متى أعرفها. وحتى بعدما رفعتُ يدي مستجيبًا تحيتها، لم أتمكن من معرفتها. فخلت أنني لم أعد أتعرّف على نفسي، ولا في أي مكان ووقت أقفُ، وماذا أفعل هنا ومنذ كم من الوقت. ومضت هنيهاتٌ فيما المرأة تحدثني من دون أن أعلم من تكون. ولما علمتُ أو فطنتُ، مضتْ هنيهات أخرى حتى تذكرتُ اسمها.

واستعدت رشدي بعد انصرافها: أنا شخص يتحلل في طابور بنزين. يتحلل في إكراه نفسه وفي كراهية نفسه، حتى التبلد الحسي، كمثل تجارب المعتقلات أو السجون أو معسكرات اللجوء أو الأشغال الشاقة والتجنيد الإجباري.

قهقهات هستيرية.. وبذاءات
عمال المحطة يتراكضون في الشارع ذهابًا وإيابًا ويتفقدون طوابير السيارات المصطفة. هم أسياد الشارع الفرحين بالغم والمقت اللذين يساوران سائقي السيارات. صاحب سيارة عمومية يرجوني كلما أبصرني أقف على الرصيف أن أعود إلى سيارتي، وأظل مرابطًا فيها خلف مقودها، فلا أغادرها. وبعد قليل أخذ يأمرني بذلك وينذرني بأنني أُغضِبُ عمال المحطة، فيوقفون تزويد السيارات بالبنزين. كلما أبصر أحدهم يروح يحادثه ويحابيه، فأشفق عليه.

من مكان وقوفي على الرصيف أتصل هاتفيًا بشخص أعرفه في هولندا. ما أن يجيب أقهقه قهقهات شبه هستيرية، فيما أقول له إن ساعتين مضتا ولم أتقدم في الطابور سوى أمتار قليلة. رجل السيارة العمومية يظن أنني أسخر منه. غاضبًا يدخل إلى سيارتي ويقودها في مساحة خلت في الطابور. أتقدم منه وأشكره، فيحدثني عن سيارات الشركة التي يعمل فيها ويأتي بها يوميًا إلى المحطة ليملأها بالبنزين، ويحذرني مجددًا من غضب عمال المحطة.

لم يبقَ أمامي سوى سيارات عشر أو أكثر قليلًا، فرحتُ لمرات أغادر سيارتي وأمشي إلى حيث الزحام على خراطيم البنزين. مرة أبصرتُ رجلًا يقف على مرتفع صغير أمام زجاج مكاتب المحطة. كان يرتدي سترة صيد بلا أكمام رافعًا يديه مشيرًا إلى عمال الخراطيم. تقدمتُ منه، فإذا به يعلوني بنحو أكثر من نصف مترٍ في وقفته على المرتفع. في سترة الصيد الكاكية اللون ويديه المرتفعتين تخيلته يحمل بندقية صيد في سهل فسيح، ويصوب نحو طابور من حجل الجرود يحلِّق في الأفق البعيد هناك "فوق قمات الجبال السمر أوكار النسور" (سعيد عقل).

حدّقت في وجه الرجل العالي، فتذكرتُ أنني أبصرته في صور صحافية كثيرة، وأيقنت أنه صاحب المحطة. سألته إن كان يمكنني أن أملأ سيارتي اليوم، فقال: ربما، أو غدًا تملأ الصهاريج خزانات المحطة، فأهلًا وسهلًا بك. ظللت هنيهات واقفًا أمامه صامتًا، ثم فكرت أن أعود إلى سيارتي وأغادر.

الحياة أثقل من الرصاص، وأخف من قطن أسود في الطوابير. ثقل وخفة خارج قوة الجاذبية، وفي مساواة عدمية، أفكر جالسًا خلف مقود سيارتي، وتأخذني نوبة مفاجئة من رغبة جامحة في المغادرة. لكنني لا أدري إلى أين أذهب وماذا أفعل. كأنني تغيّرتُ وصرتُ شخصًا آخر سواي في هذه الساعات الثلاث من الانتظار الغثياني.

ووصلتُ إلى خراطيم البنزين. فيما يضع أحد عمال المحطة خرطومًا في فتحة خزان سيارتي، انقطع التيار الكهربائي، فترك الخرطوم معلقًا في مكانه وانصرف، ثم جلس على كرسي أمام مكتب المحطة. سمعت لفظًا خلفي تشوبه كلماتٍ بذيئة من جيش العمال وسواهم المتحلقين حول السيارات في الصف الطويل. وسمعت أن عمالًا لا يحاولون تشغيل المولد الكهربائي. أحدهم يتكلم عنه بصفته امرأة تحتاج إلى رجال. آخر يقول إنه فرغ من الزيت ويعبئونه. ثالث يقول إنه سينتصب بعد قليل. رجال كثيرون يقهقهون. إمرأة في سيارتها ترفع زجاج سيارتها وتخبئ وجهها بكفيها.

ومضت نصف ساعة على هذه الحال من السفالات التي شعرتُ أنني شريك فيها، فيما يصبُ خرطوم البنزين في خزان سيارتي. ولما غادرت ألحّت عليّ مرات رغبةُ صدمِ سيارتي بجدار.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها