السبت 2021/09/18

آخر تحديث: 12:52 (بيروت)

قبضايات وفتوّات وإمارات حربية.. وصولاً إلى انتفاضة تشرين الطرابلسية

السبت 2021/09/18
قبضايات وفتوّات وإمارات حربية.. وصولاً إلى انتفاضة تشرين الطرابلسية
ومن اعترافات الطواشي أيضًا أن ساحة النور كانت منقسمة وهو من وحّدها (المدن)
increase حجم الخط decrease
"لما بلشت (بدأت) الثورة استلمت المنصة بساحة النور. ليلة 17 تشرين كنت عم حضر حالي لسفرة كزدورة عَ اسطنبول مع شباب أصحابي، وشعّل البلد، وسكرت الطرق، والغيت السفرة. وصلت عَ الساحة مع الشباب عَ الموتوسيكلات. لقيتْ عالم مجمعين بالساحة. التقيت بشخص كنت أعرفه بالعسكر المتقاعدين، اسمه أبو كريم. لما شاف معي شباب كتار، حملوني العسكر، وواحد منهم رفعني على كتافو ورحنا نطالب بإسقاط النظام".

فتوّات ساحة النور
هكذا بدأ عبد الله الطواشي روايته عن انخراطه ومجموعة شبانه في انتفاضة 17 تشرين 2019، بعد مضي سنوات على نجوميته لاعب كرة قدم محترفٍ، ويتقاضى راتبًا شهريًا من أندية طرابلسية معروفة، وقبل توقفه نهائيًا عن اللعب، بسبب عطبٍ في رجله. وكانت "المدن" قد روت على حلقتين في 8 و10 أيلول الجاري سيرة نجوميته وصيرورته فتوّة في أحياء القبة الشعبية الفقيرة وسواها من أحياء طرابلس، وتصدُّرِه مجموعات من شبان هذه الأحياء وفتيانها في مسيراتٍ أو عراضات أو هَرْجاتٍ احتجاجية على بطالتهم وانعدام فرص العمل لأمثالهم في المدينة. وكانت تلك المسيرات تنطلق على دراجات نارية تجوب شوارع طرابلس وأحياءها، وغالبًا ما تضم الواحدة منها مئات الشبان والفتيان.

وقصة الطواشي في انتفاضة تشرين الطرابلسية مرآة أو مثال لقصص كثرة من أمثاله فتوّات أحياء المدينة الشعبية الفقيرة -كالقبة وباب التبانة والمنكوبين والأسواق القديمة- أولئك الذين جمعتهم الانتفاضة مع أتباعهم أو مريديهم أو مواليهم من عُصب الفتيان والشبان، المتسربين مبكرًا من التعليم في مدارس رسمية، والعاملين مياومين في مهن متواضعة موقتة ومتقطعة، والعاطلين غالبًا عن العمل. فسارعوا في الأيام الأولى من 17 تشرين إلى نصب خيامهم في مستديرة ساحة النور الطرابلسية، بأمرة أولئك الفتوّات الذين يُعرَفون محليًا في بعض أوساط المدينة بـ "القبضايات"، استلهامًا وتجديدًا لتراثٍ محلي مديني قديم ومتناسل في الأحياء والأسواق.

ومن مقومات نشوء قبضاي أو فتوّة، تصدّره وتنصيبه رائدًا وآمرًا لفتيانٍ وشبانٍ في حيّ أو ناحية أو شارع أو سوق في المدينة، أن تؤهله الحياة والعلاقات والولاءات المحلية لهذا الدور الاجتماعي المحلي، بناء على جملة من حوادث يبرز فاعلًا فيها، فتضفي عليه أفعالُه نوعًا من "البطولة" أو "النجومية" الشعبيتين، فيصير صاحب حظوة أو دالة أو هيبة وسطوة في الحي أو المحلة أو السوق. وهذه حال عبد الله الطواشي الذي برز نجمًا طرابلسيًا في ملاعب كرة القدم، ثم فتوّة في أحياء القبة وغيرها من أحياء طرابلس.

الإمارات وقدامى القبضايات
والمعروف أن تكوّن مسارات ومصائر قبضايات الأحياء وفتواتها في المدن اللبنانية، على صلات عضوية وثيقة بأقطاب وزعماء السياسة المحلية فيها، أقله منذ ما قبل استقلال لبنان سنة 1943. فرياض الصلح وهنري فرعون مثالًا، كانت زعامتهما السياسية قبل الاستقلال وبعده، تنطويان على ولاء شبكة واسعة من القبضيات لهما: في المقاهي الشعبية، ومواقف السيارات، وسوق الخضر، والأحياء، وملعب سباق الخيل، واسطبلاتها، والأندية الرياضية لكمال الأجسام وكرة القدم.

وحسب روايات كثيرة عن حرب السنتين (1975 – 1976) في الأشرفية، قضت نشأة ميليشيا حزب "الكتائب اللبنانية" على قبضايات وفتوّات قدامى، حزب "الوطنيين الأحرار" التقليديين الموالين في زمن ما قبل الحرب لزعامة كميل نمر شمعون. ولم تكن حروب "توحيد البندقية المسيحية" التي خاضها قائد "القوات اللبنانية" الشاب بشير بيار الجميل، ومنها "مقتلة الصفرا" قرب المعاملتين سنة 1980، إلا امتدادًا منهجيًا للقضاء على "نمور الأحرار" وفوضى قبضاياتهم وفتواتهم، لتسود الميليشيا الحربية المنظمة والموحدة في المناطق المسيحية.

أما في مدينة طرابلس ما قبل الحروب الأهلية فيها (1975 - 1985)، فكان من أركان زعامة آل كرامي وآل المقدم مثلًا، ولاءُ شبكات من القبضايات والفتوّات لكل منهما في الأحياء والأسواق الطرابلسية. وفي العام 1970 استهل سليمان فرنجية –المعروف بأنه الركن المحلي لزعامة شقيقه حميد فرنجية في زغرتا، فيما كانت المحاماة ركن وجاهته في الصالون السياسي البيروتي– استهل عهده رئيسًا للجمهورية بإطلاقه حملة عسكرية رسمية نظامية على ما يسمى "دولة المطلوبين" في أسواق طرابلس الداخلية، والتي كان يتصدرها جملة من القبضايات والفتوّات في المدينة، وفي طليعتهم عمر وأحمد القدورة (26 عامًا).

وفي زمن الحروب الأهلية، بعد وراثته فتوّة شقيقه علي عكاوي القتيل في السجن، تصدّرت "إمارة أبو عربي - خليل عكاوي" في حي باب التبانة، الميليشيات الحربية في المدينة، وضمت في أركانها عددًا من الفتوّات الجدد، أمراء السلاح والحرب الموالين لحركة "فتح" الفلسطينية المسلحة التي أمدّت "إمارة أبو عربي" وأركانه بالمال والسلاح منذ ما قبل الحروب الطرابلسية. وبعد اغتيال خليل عكاوي تفككت إمارته الأهلية والعسكرية وانضوى كثرة من أركانها في "إمارة الشيخ سعيد شعبان الإسلامية" المتأثرة مع عكاوي في آخر أيامه بالثورة الخمينية الإيرانية في النصف الأول من ثمانينات القرن العشرين. وهي الإمارة التي كان لها أثرها الدموي العاصف في طرابلس، قبل أن تعاجلها وتفتك بها الحملة الدموية العاصفة لجيش واستخبارات نظام حافظ الأسد السوري، وتقتلعها في مقتلة لا تزال حيّة راعفة حتى اليوم في الذاكرة الطرابلسية.

وداع زمن الوفرة
ولا عتب على عبد الله الطواشي، المولود سنة 1984 في القبة بطرابلس، لأن لا شيء من هذا كله في ذاكرته. ولربما سمع بالتواتر الخبري المتناقل بشيء من أخبار تلك الإمارات وأبطالها وفتواتها، وقد يكون أمحى أو ترسَّب في ذاكرته، فطواه النسيان. فنجومية وليدة ملاعب كرة القدم في زمن ما سمي "السلم الأهلي" الذي أسدله اللبنانيون ستارًا على مقاتلهم الأهلية الحميمة والأقرب إليهم زمنًا. وهذا من مبادئ ثقافتهم السياسية والاجتماعية التي لا تجيد تدبير انقساماتهم وشقاقاتهم ونزاعاتهم الأهلية، ليصيروا شعبًا ومجتمعًا وتصير لهم دولة، إلا على نحوٍ مخاتل عِمادُه التكاذب اللفظي الذي يحجب ضغائنهم وحوادث حياتهم ومقاتلها، ليبقيها بلا تاريخ وخارج التاريخ.

وهذه حالهم أيضًا في تدبير الريوع والإعالات والإعاشات التي تتدفق على بلدهم من جهات العالم القريبة والبعيدة، لقاء توقفهم عن التقاتل والاحتراب بالوكالة عن تلك الجهات إياها، فيستجيبوا صاغرين لـ"سلمهم الأهلي". وهكذا يصير التبذير والهدر والفساد المالي بلا حساب اقتصادا ًلمجتمعهم ودولتهم. وتصير اسطنبول وشرم الشيخ وسواهما من الوجهات السياحية محجاتهم الترفيهية، بما وفرته لهم أخيرًا سياسة تثبيت سعر صرف الدولار على مقادير لا يسمح بها اقتصادهم، ووفّرته كذلك فوائض أو فيض مرتباتهم وأجورهم ومسلسل زياداتها المهولة، فيما راحت سلطاتهم كلها تتستر على إفلاس نظامهم المالي وانهياره، فجاوروها في ذلك سادرين، أقله منذ العام 2015.

وبدل أن يسافر الطواشي إلى اسطنبول مع شلَّة من صحبه، توجه إلى ساحة النور، فتوّة على رأس مجموعة من الفتيان والشبان على دراجاتهم النارية لوداع زمن الوفرة في كرنفال–انتفاضة في تلك الساحة الطرابلسية، احتجاجًا على عطالتهم عن العمل وفقرهم.

المنصة وإدارتها
وبصفته فتوّة أو واحدًا من "القبضايات"، ينفي الطواشي صلة أيّ من أمثاله الكثيرين في طرابلس والمشاركين في انتفاضتها التشرينية، بزعماء المدينة السياسيين. وردًا منه على ما يسميه "شائعات" كثيرة عن ارتباط "القبضايات" والفتوات بالأجهزة الأمنية وبالسياسيين، قال: مثلًا ربيع الزين وشبانه الكثيرين خيموا في ساحة النور، وكان لهم حضورهم في المدينة قبل 17 تشرين، وراجت شائعات عن ارتباط الزين بالأجهزة. لكننا قلنا لهم: هل لديكم دليل واحد على ذلك كي نفضحه؟ واستطرد الطواشي في كلامه على زعماء السياسة، فقال: مضت 40 سنة على قعودهم على الكراسي، ولا تستطيع أن تشيلهم عنها بسهولة. وهم يكبون (يطلقون) كلامًا كثيرًا في الشارع، فيقولون فلانًا مسيّس وذاك يتقاضى مالًا من زعيم ما. وهدفهم أن يفشّلوا الثورة ويشرذموها. واطلقوا طابورًا خامسًا اندس بين الشباب في الساحة لتفريقهم.

وروى عبد الله أن شبانًا من "الجماعة الإسلامية" هم من شرعوا في نصب المنصة في ساحة النور. وهم ينفون أو ينكرون أنهم من الجماعة. لكن المخيمين في الساحة كانوا يعلمون، منذ ما قبل الانتفاضة، أنهم ينتمون إليها. وقد تعاون معهم شبان من "حراس المدينة" وقائدها أبو محمود شوك. وسرعان ما اعتلى المنصة شاب اسمه "بلبل الثورة"، وكان هتِّيفًا في الوقفات الاحتجاجية لأهالي الموقوفين الإسلاميين في طرابلس.

وفي بدايات الانتفاضة نشب خلاف على إدارة المنصة بين "الجماعة الإسلامية" ومجموعات "ثورة المحرومين"، حسب عبدالله، ولفض هذا الخلاف، سلموه إدارتها، فأحضر "جيلايات" (سترات موحدة الشكل واللون) للشباب وتولى أمن المنصة، وظل حوالى أشهر أربعة يقوم بهذه المهمة. وهو قال: ياما دسوا شبانًا ضدي. لكن الشبان المدسوسين ناس طيبين. فغالبًا ما كانوا يأتون إليّ قائلين: دفشوني عليك لأطعنك بسكين. بس أنت ابن حلال والله حاميك، وأنا ما بعملها فيك. ومن اعترافات الطواشي أيضًا أن الساحة كانت منقسمة وهو من وحّدها. فمختار من بلدة عكارية جاء إلى الساحة مع جماعة من أنصاره ونصب مكبر صوت ضخم في وسطها وراح يطلق شعارات على هواه. وتمكن عبد الله من عقد "تسوية" مع المختار: خصص له وقتًا لاعتلاء المنصة ليخطب من على خشبتها ومن ميكروفونها. فعبد الله أقنعه قائلًا له: من على المنصة، من فوق، تستطيع أن تحكي وجعك، فيسمعك الجميع في الساحة.

وخلف المنصة مبنىً ضخم من طبقات سبع أو ثماني، مهجور، وربما كان قديمًا مقرًا لشركة حديثة في أيام طرابلس الخوالي السابقة على حروبها الأهلية. وقام ثوار تشرين بطلائه بلون أحمر فاقع وحار وسميك. وخُصِّصَ بابٌ واحد في المبنى الأحمر المهجور لاعتلاء المنصة. وشدة التزاحم للوصول إليها لإذاعة الخطب على المحتشدين في الساحة، حملت عبد الله الطواشي على إقفال الباب بقفلٍ وجنزير حديد، يظل مفتاحه في حوزة شاب من شبانه يقف على الباب ولا يفتحه لأحد يريد الصعود إلى المنصة، إلا إذا اتصل به الطواشي من جهاز يحمله.

وحاول عناصر من مخابرات الجيش مراتٍ افتعال مشكل مع عبد الله لاعتقاله. دسوا –بحسبه- شبانًا كثيرين للشجار معه وسط التدافع والزحام على بوابة المنصة. وروى الطواشي أن معظم المطاعم في المدينة كانت ترسل وجبات طعام كثيرة إلى الشبان المخيمين في وسط الساحة وسواهم من المنظمين والمولجين بالحراسات. وكانت الوجبات تفيض ويوزع بعضها على المحتاجين. لكن بعدما تسلمتُ -قال- تنظيم المنصة، لم يعد يصل إلى الساحة سوى المناقيش، فجاع الشباب المنظمين والمخيمين.

نهاية الحشد
وراح الحشد يتضاءل في ساحة النور أسبوعًا بعد أسبوع. البعض راح يقول -حسب عبد الله– إن الساحة ومنصتها صارت للغناء والرقص. وبعد انخفاض عدد الناس في الساحة، تكاثرت الدعوات إلى المسيرات في شوارع المدينة. وأكثر من مرة اعتقلت أجهزة أمنية عبد الله وأطلقت سراحه بعد يوم أو اثنين. وتعرض اثناء توقيفه للعنف والضرب. وكثيرًا ما سألوه عمن يدعمه ويموله. ثم تكاثر –بحسبه– عدد الشبان والفتيان الذين يرتادون الساحة سكارى ومحبحبين (يتناولون حبوبًا مخدرة). وبعض المسيرات التي راحت تنطلق من الساحة، كان شبانها وفتيانها يمكثون يومين أو ثلاثة في الشوارع وينامون على الإسفلت لقطعها. وهنا راح الطواشي يتذمر فيما هو يتحدث عن تلك المسيرات، فقال: بعد حملات قطع الطرق، صار بعض الناس يقول إن هذا خطأ. ورحنا نتظاهر أمام الشركات ونقفلها، فقالوا هذا خطأ أيضًا. وسكرنا مرفأ طرابلس، فقالوا غلط، وكذلك فعلوا حينما أقفلنا شركة الكهرباء.. وهكذا صرت أحترق من داخلي وأتساءل: انهار كل شيء في البلد، الليرة، الكهرباء، لا بنزين، لا مازوت، وليش ساكت هذا الشعب؟! لذا رحت أقول: أنا مش فارقة معي كمان، تعبت ويئست.

وبعدما أُفرغت ساحة النور من المحتجين ومن الخيم، وفتحت الطرق في طرابلس، عاد عبدالله إلى بيته وحياته في القبة. وبعده بمدة قصيرة، وسط العتمة في الحي الذي يقيم فيه، أقدم شاب من باب التبانة على سرقة دراجة نارية من الحي، فقبض عليه شبان من أتباع عبد الله. ولما حاول الهرب بالقفز من شرفةٍ أطلق شاب النار عليه من مسدسه الحربي، فأصابه ونقله عبد الله في سيارته إلى المستشفى. وقبض عليه بعد وفاة الشاب متأثرًا بجراحه. وأمضى الطواشي 7 أشهر في السجن. وفي نهاية حديثنا معه على الرصيف المائل أمام المقهى الصغير القريب من بيته، قال: خرجت من السجن فوجدت أمي طريحة الفراش في البيت، جراء تعطل كليتيها. وها أنا منشغل في تأمين مستلزمات عملية غسلهما وتنقية دمها مرتين في الأسبوع في المستشفى.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها