الأحد 2021/07/04

آخر تحديث: 11:43 (بيروت)

مرشدة غادة عون وعلي المملوك... ومدارس حلب الكاثوليكية

الأحد 2021/07/04
مرشدة غادة عون وعلي المملوك... ومدارس حلب الكاثوليكية
الراهبة ساعدت الصحافي الفرنسي جيل جاكيه في حصوله على تأشيرة دخول إلى سوريا (الانترنت)
increase حجم الخط decrease
روى هذه الأخبار عن حلب شابٌ من حلب يقيم في لبنان منذ أكثر من 15 سنة. وهو يتابع ويتقصى أخبار مدينته الأولى وغيرها من الديار السورية، ولا سيما المسيحيين وهجراتهم. وسبق أن نشرت "المدن" الأحد 26 حزيران الماضي حلقة من أخباره عنوانها "نساء حلب المسيحيات.. وتهريب ذهبها ودولاراتها إلى لبنان وتركيا". وهنا أخبار عن حلب الكاثوليكية ومدارسها. وتقصٍّ لصلة الراهبة فاديا لحام (أغنيس مريم الصليب)، مرشدة القاضية اللبنانية العونية غادة عون، برئيس جهاز الأمن الوطني للنظام السوري، علي المملوك، وبمقتل الصحافي الفرنسي جيل جاكية في حمص بدايات الثورو السورية. 
وبدأ الراوي أخباره عن مدارس حلب الكاثوليكية.  

حلب الكاثوليكية ومدارسها
كنت في طفولتي أنفر من الذهاب إلى المدرسة، مدرسة "الإيمان" التابعة للكنيسة الأرمنية الكاثوليكية في حلب. وهي كانت، ومدرسة "الأمل" التابعة لكنيسة الروم الكاثوليك، أفضل مدرستين في حلب. وكانت مدرسة "الإيمان" الأرمنية أفضل من "الأمل" في المستوى التعليمي لتلامذتها. ولما كبرت وانهيت المرحلة الثانوية من تعلمي، سألتُ كثرة من زملاء طفولتي في المرحلة الابتدائية عما إذا كانوا يحبون المدرسة في طفولتهم، أم أنني وحدي كنت أنفر منها وأتهرب من الذهاب إليها، كلما سنحت لي فرصة الهرب؟ فإذا بجميع من سألتهم كان جوابهم أنهم كانوا يكرهون المدرسة مثلي. لذا رحت أسأل أهلي لائماً: كيف ولماذا أرسلتموني في طفولتي إلى مدرسة تعتمد العنف والتعنيف أسلوباً منهجياً في التربية والتعليم ؟!

وسرعان ما أدركتُ أن التعنيف ضرباً بالعصى وصفعاً على الوجه كان معتمداً في أفضل مدرستين خاصتين في حلب. وكان المدرسون والمدرسات فيهما مسيحيون كلهم، ومنهم من درّسوا جيل والدي، واستمروا في تدريس جيل أصغر مني. وإلى الخوري والراهبة في إدارة المدرسة، كان هناك المدير المنتدب الذي تعينه في منصبه هذا إدارة النظام البعثي، ومن الضروري حتماً أن يكون بعثياً مسلماً، ومسيحياً أحياناً. لكن المدير المنتدب ومن يسمى الموجّه (الناظر)، وهو بعثي بالضرورة أيضاً، كانا يتحولان إلى "إجر كرسي"، أي لا دور ولا سلطة ولا كلمة ولا معنى لهما في المدرسة، لقاء ما يمنحه إياهما الخوري من إتاوات مالية، قد تكون أعلى من راتبه الشهري المقررمن النظام البعثي.


وكانت المدارس الخاصة الإرسالية الكثيرة التابعة للبعثات الغربية من فرنسيسكان ويسوعيين وسواهما، قد أُمِمّت في حلب وسائر الديار السورية في نهايات الستينات، أو أُقفِلت وهُجِّرتْ من سوريا. وقد بيّنت استطلاعات أن حلب كانت تخلو من المدارس الخاصة الإسلامية قبل التأميمات التي لم تبقِ في المدينة سوى مدارس الكنائس المحلية الكاثوليكية غالباً. فمسيحيو حلب معظمهم من الروم الكاثوليك، على خلاف طغيان الروم الأرثوذوكس على مسيحي سوريا عامة. ومدارس الكنائس الحلبية المحلية الكاثوليكية لم يبقِ التأميم منها سوى من قبلتْ بتغيير مناهجها التعليمية وتعيين مدراء منتدبين بعثثين فيها.

وفيما كان اليُسْر المادي يغلب على تلامذة مدرستي، مدرسة "الإيمان" الأرمنية الكاثوليكية، كان تلامذة مدرسة "الأمل" للروم الكاثوليك خليطاً من ميسورين ومتوسطي الحال والفقراء، وبينهم مسلمون حلبيون غالباً ما كانوا من الأغنياء وأبناء العائلات. وأذكر من زملائي في مدرسة "الإيمان" مسلماً واحداً فقط.


وحين تعود بي الذاكرة إلى طفولتي الحلبية في مدرسة "الإيمان" في أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات، أتذكر شحَّ السلع الإستهلاكية غير المحلية وندرتها في سوريا البعث كلها. فالخبز وورق الكلينكس وورق التواليت في حلب وسوريا، كانت تهرّب من لبنان. وكان شبيهاً بمعجزة أن أُخرِج من محفظتي المدرسية قطعة شوكولا "تويكس" أو "شوكو برنس" أو "كيت كات" آتية كلها من بيروت، رغم أن أقراني في المدرسة كانوا مسيحيين من عائلات ميسورة، من دون أن يكون أهلي من الأغنياء مثلهم. أما المعجزة الخارقة الأقوى من الأولى فكانت أن أذهب إلى مدرستي منتعلاً حذاء من ماركة "نايكي". لذا كنت مستعداً للمشي على يديّ كي لا تعلق به ذرة غبار.

ومدرستي الكريهة في طفولتي، تعليماً ومبنىً تراثياً قديماً مهملاً وكالحاً، استغربُ اليوم صوره الجميلة الزاهية التي رأيتها أخيراً على مواقع التواصل الإلكتروني: أزالوا طبقة الباطون الرمادية الكالحة عن جدران المبنى التراثي المبنية بالحجر الرملي الأصفر، وأعادوا ترميم المدرسة وتجهيزها على صورة بهيّة بالأموال التي تدفقت من منظمات الجاليات المسيحية في العالم، ليُظهر النظام السوري للعالم أن المسيحيين في حلب وسوريا عامةً كانت الثورة تستهدفهم وتدمر مؤسساتهم ومدارسهم، وقام النظام بحمايتها وتحسينها. لكنني أحدس موقناً أن ذلك البهاء الصوري للمبنى التراثي، ينطوي على خواء كالح أشد من خوائه في طفولتي.


ومرة زار حلب بطريرك الروم الكاثوليك، فاجتمع لاستقباله رجال الأكليروس الذين راح أحدهم يعرّف البطريرك عليهم ويعلن أسماءهم: الأب يوحنا جاموس وأخوه حكمت جاموس، أبونا الجمل، أبونا ديب، فرير سبع، أبونا برغل، وأبونا عدس. وهذه كلها الكنيات العائلية لرجال الأكليروس المجتمعين لاستقبال البطريرك الذي علق ممازحاً فقال: عندكم هنا الحيوانات والعلف، ولا تحتاجون شيئاً.


وحلب المسيحية الكاثوليكية معروفة بكثرة رجال الدين المسيحيين فيها تاريخياً. والدليل على ذلك أن أبرشية بيروت الكاثوليكية التي تضم بيروت وجبيل وزحلة تعدّ حوالي 180 ألف نسمة، فيما تعدّ أبرشية حلب الكاثوليكية عشايا الثورة السورية حوالي 20 ألف فقط. لكن نسبة رجال الدين في أبرشية بيروت قياساً إلى عدد سكانها، أقل من نسبة رجال الدين الحلبيين ومن أصول حلبية. وفي واحد من اجتماعات أساقفة الطائفة الكاثوليكية في الرقعة الأنطاكية التي تشمل سوريا ولبنان وفلسطين والمهجر، تبيّن أن عدد الأساقفة الحلبيين مرتفع جداً. فمطران اللاذقية حلبي، وكذلك مطران دمشق وصور وحلب والمهجر الفنزويلي. وكان عدد الحلبيين بينهم 8 من أصل 30 أسقف. لكن هذا التراث المسيحي الحلبي انتهى تقريباً. فمنذ سنوات عشر إلى اليوم انخفض عدد المسيحيين في حلب من 200 ألف نسمة إلى 20 ألف فقط.

والمعروف أن مسيحيي حلب عموماً مدينيون حلبيون، ويخلو منهم الريف الحلبي خلواً تاماً تقريباً. وهذا ما أدى إلى شدة النزعة الاجتماعية المدينية لدى المسيحيين الحلبيين، وبلوغها حدّ العنصرية أو العنهجية الطبقية حيال الريف والريفيين. لكن هذه النزعة المدينية تشمل أيضاً المسلمين الحلبيين المعتدين بمدينيتهم حيال الأرياف وأهلها القادمين إلى حلب. والمعروف أن الريف الحلبي من أشد أرياف سوريا تخلفاً. والعنهجية المدينية المسيحية الحلبية تصيب أحياناً المسلمين الحلبيين أيضاً. وقد يكون ما غذى التعالي المديني الحلبي المسلم والمسيحي على الريف والريفيين، أن الريف الحلبي المسلم من الشاوية العشائرية التي كانت تفرض الخوّات والإتاوات على الحلبيين المدينيين. وقد شاع وعُرِف أن آل البري الشاوية العشائريين، الذين توافدوا من أرياف حلب ونزلوا في ضواحي المدينة، جندهم النظام السوري في أجهزته الأمنية لقمع الثوار في حلب وإخضاعهم.

غادة عون ومرشدتها أغنيس
عندما أبصرت مرة على شاشة التلفزيون القاضية غادة عون وإلى جانبها تلك الراهبة فاديا لحام - المتكنية باسم ديني مسيحي رهباني، مريم الصليب، والمولودة من أب فلسطيني وأم لبنانية – تذكرت أن تلك الراهبة كانت مسؤولة عن دير القديس مار يعقوب المقطع في النبك. وتذكرت أيضاً أنها كانت تصول وتجول في الديار السورية في بدايات ثورتها، وخصوصاً في مدن حماة حمص ويبرود الثائرة، تحت مسمى "جمعية ابن الإنسان" وشعارها "أنقاذ مسيحيي الشرق". وهي كانت ضالغة في إجراء مصالحات بين النظام والثوار في حمص، بتكليف من اللواء علي المملوك، رئيس جهاز أمن النظام السوري.


ومن متابعاتي سيرة هذه الراهبة، وحادثة قتل المصور والصحافي الفرنسي جيل جاكيه في حمص العام 2011، رأيتُ مرة على تلفزيون فرنسي زوجة جاكيه القتيل، والتي كانت معه في رحلته الصحافية الاستطلاعية في حمص، تتهم الراهبة أغنيس في التآمر مع علي المملوك لقتل زوجها. وكانت الزوجة قد وضعت كتاباً ونشرته في فرنسا، وروت فيه ملابسات حادثة قتل زوجها، فاعتبرت أن الراهبة هي من ساعدت جاكيه في حصوله على تأشيرة دخول إلى سوريا مناطق النظام، عبر صلتها بالمملوك. وعندما طلب جيل جاكيه منها أن يدخل إلى مناطق المعارضة في حمص أنذرته وهددته في حال عدم تقيّده بالخطة المقررة لزيارته الصحافية. ولما طلب منها أن ترافقه في الدخول إلى مناطق المعارضة، قالت له: المعارضة تريد قتلي، ولا أستطيع الذهاب. وأشارت زوجة جاكيه إلى أن الراهبة ورجال المملوك دبروا خطة لقتل زوجها أثناء تنقله في مناطق حمص التابعة للنظام، لمنعه من الانتقال إلى مناطق المعارضة، ثم قالوا إن القذيفة التي أصابت الوفد الصحافي وقتلت جاكيه وجرحت زوجته، مصدرها مناطق المعارضة في حمص.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها