الأحد 2021/06/27

آخر تحديث: 12:58 (بيروت)

نساء حلب المسيحيات.. وتهريب ذهبها ودولاراتها إلى لبنان وتركيا

الأحد 2021/06/27
نساء حلب المسيحيات.. وتهريب ذهبها ودولاراتها إلى لبنان وتركيا
يُصَّب الذهب الحلبي في مكابس خاصة، ليصير ليرات إنكليزية تُهرّب إلى تركيا (Getty)
increase حجم الخط decrease
يحارُ راوي هذه الأخبار عن حوادث في مدينة حلب كيف تُكتب قصصًا أو روايات. هو يهوى تقصي الأخبار عن حوادث حلبية سمع أخبارها، تكثير مصادرها المتنوعة، التحقق منها ومقارنتها، ووضعها في سياق زمنها الاجتماعي وإطاره. لكنه يقف حائرًا مترددًا ومتسائلًا عن كيفية صوغها في أسلوب رواية فنيّة.

مسيحيات في حلب
بدأ أخباره بأنه ولد سنة 1983 في حلب، في منطقة أو حيّ اسمه تلفون هوائي. وعلّل التسمية بسماعه –وربما قرأ– أن الفرنسيين نصبوا في تلك المنطقة، خارج حلب التاريخية القديمة، هوائيًا للاتصالات البرقية اللاسلكية (أي الهوائية)، خلافًا للهاتفية السلكية (التلفون)، المثال الجديد والوحيد للاتصالات الحديثة غير المعروفة قبل الانتداب الفرنسي. وذكر الراوي إلى أن حلب القديمة، مثل دمشق، لا يحوطها سور واضح مكتمل المعالم، غالبًا ما يسوّر المدن التاريخية القديمة، ويفصلها عن خارجها أو عن ظاهرها وأحيائها السكنية المستجدة.

بيتُ أهل والده المسيحيين كان آخر البيوت في حي تلفون هوائي. وكان والده ابنًا وحيدًا بين أخواته البنات، وظل مقيمًا مع والدته الأرمنية في ذلك البيت، بعد زواج أخواته وانتقالهن للإقامة في بيوت أزواجهن. وراوي هذه الأخبار اكتشف في الثامنة والعشرين من عمره سنة 2011، أن له عمة لا يعرفها قط ولا سمع باسمها ولا بخبرٍ عنها، ولم يبصرها إلا أثناء أحتضار جدته لأبيه، والتي كانت أول شخصٍ يراه يُحتضر على فراش الموت. وكان لا يزال مسيحيًا مؤمنًا آنذاك، وعائدًا من لبنان لزيارة أهله ووداع جدته في بيتها بحلب، فآلمه وعذّبه مشهد احتضارها. وفي ذاك النهار، نهار تشييعها إلى مثواها الأخير ودفنها، "ولدت" في الجنازة عمته المجهولة، أمرأة قد تكون في عمر أمه، وسمع قصة اختفائها أو بترها ونفيها من العائلة: كانت، هي المسيحية الحلبية، تحادث شابًا مسلمًا من الكرد، حلبيًا مثلها، أو مقيمًا في حلب. ولمّا علم شقيقها (والد الراوي) أنها تميل إلى ذاك الشاب، كلّمها في الأمر وقذفها بكرسيّ بيتية. وكأنما فعلةُ أخيها تلك كانت إيذانًا بقذفها خارج البيت والعائلة، فأقدمت على أن يختطفها الشاب المسلم الكردي، ويتزوجا "خطيفة".

ووالد الراوي تزوج أمرأة مسيحية مثله، وأقاما مع أمه في ذلك البيت بحي تلفون هوائي. ويكاد الراوي لا يذكر عن الحي والبيت سوى صور قليلة من طفولته الأولى. فوالده سرعان ما انتقل وزوجته وأمه إلى الإقامة في بيت آخر في حي بعيد من تلفون هوائي. ومن صور ذكرياته الطفلية الراسخة في وعيه، روى أن أمه كانت ترسله وأخ له أكبر منه، حاملين الأكل في علب بلاستيكية لعمته العجوز الوحيدة في بيتها القريب. لماذا وحيدة؟ ألأنها اكتهلت وفاتها قطار الزواج من مسيحي مثلها؟ وفي بيتها كانت العمة الوحيدة المكتهلة، تفتح خزانة في بيتها وتُخرج منها علبة بلاستيكية تضع فيها المال، فتمنح منه بعض الليرات السورية لأبناء أخيها الصغار، كلما جلبو لها المآكل من بيتهم. وأنا المستمع إلى قصة تلك العمة العجوز الوحيدة في بيتها، تذكرت شيئًا عن وحشة النساء السريان المستوحدات، أثناء زيارة لي إلى القامشلي، ربما في العام 2000.

دولارات حلب إلى لبنان
وانتقل الراوي إلى رواية أخبار سائقي سيارات التاكسي بين حلب وبيروت في ثمانينات القرن الماضي. وكان قريبُه واحدًا منهم. ففي سيارات التاكسي مخابئ لتهريب دولارات صناعيي حلب وتجارها وصيارفتها إلى خارج سوريا التي يمنع نظامها إخراج مدخرات أهلها بالعملات الأجنبية والذهب منها بطرق شرعية، عبر المصارف الحكومية، أو سواها من الشركات المالية التي لا وجود لها أصلًا في سوريا. وكان الخوف من التأميم والمصادرة ولا يزال، حاسة سادسة في صدور السوريين وعلاقاتهم، ولا يثقون قط بتلك المصارف كي يودعوا فيها أموالهم مدخراتهم، ويجرون عبرها معاملاتهم المالية للصناعات والتجارات وسواها من الأعمال. إذاً، لا بد من تهريبها إلى خارج البلاد.

ولبنان أقرب البلاد إلى سوريا. وهو جنة للحريات المالية والمصرفية، رغم استغراقه في حروبه الأهلية–الأقليمية آنذاك، وحدوده مشلّعةٌ مشرعة للأعمال والصفقات والسلع كافة. وطبعًا "للسلاح الوطني التقدمي"، و "لتغيير النظام اللبناني غير الوطني ولا العروبي، والقامع للحريات التقدمية، بل الإمبريالي والعميل". وذلك ليصير لبنان حرًا، تقدميًا عروبيًا اشتراكيًا، على المثال السوري الذي لا تخرجُ منه المدخرات، عملاتٍ أجنبية وذهبًا، ولا تدخل إليه سلع العيش غير المتقشف، تلك التي تثير شهوات السوريين وتسحر مخيلاتهم حتى العبادة، إلا من طريق التهريب.

ويجمع تجار حلب وصناعيوها أموالهم، ويودعونها، لدى الصرافين الذين يكثر بينهم أبناء الأقليات الحلبية من مسيحيين وأرمن ويهود. ويحوّل الصرافون عملاتهم السورية إما إلى دولارات وإما إلى ذهب، لتهريبها إلى الخارج. وعمليات الإيداع والتحويل هذه تحدث بلا مستنداتٍ ولا فواتير بين الطرفين، ووحدهما الثقة والذمة ديدن هذه العمليات وضابطها. والصرافون يوضبون دولارات الصناعيين والتجار عملائهم -وهي كلها دولارات سوق سوداء سرية للعملات- رزمًا رزمًا مغلّفة، ويسلمونها لسائقي سيارات التاكسي الذين يخفونها في مخابئ محددة، مدروسة ومجرّبة، في سياراتهم، وينقلونها عبر الحدود إلى بيروت، وغالبًا إلى شركة ميشال مكتف المالية اللبنانية.

ومرة هرّب سائق سيارة تاكسي مخدرات في سياراته. ولكي يشاغل رجال جهاز أمن التفتيش الحدودي السوري ويصرفهم عن تهريبته، وشى بزميل له سائق سيارة يهرّب فيها رزم الدولارات. فقام مفتشو جهاز الأمن بتفكيك صندوق سيارته وأبوابها بحثًا عن الدورلارات، فلم يعثروا عليها. ولما علم هذا السائق بالوشاية وصاحبها، شكاه إلى شركة مكتف في لبنان، فنال نصيبه من القصاص في الشركة على وشايته (على ذمة الراوي).

وذهب حلب إلى تركيا
وأعمال الصاغة وتجاراتها من المعادن الثمينة، وخصوصًا الذهب، مهولة في حلب. والسوق التركية شديدة التطلب للذهب الحلبي المهرب. لكن السلطات التركية متشددة بقوة ضد عمليات التهريب إليها من سوريا. والأرمن الحلبيون هم الأكثر عددًا والأطول باعًا في سوق الصاغة وأعمالها وتجاراتها في المدينة، إلى جانب قلة من المسلمين السنّة، ومنهم بكري حنيفة المشهور في حلب.

وكان الذهب الحلبي يصبُّ في مكابس خاصة في المدينة ليصير ليرات انكليزية ذهبية شبيهة شكلًا بالأصلية. وكانت الوحدة المعتمدة من سبائك الذهب المعدة للتهريب إلى تركيا تزن 50 كلغ، تُصَبُّ في المكابس وتُحوّل ليرات إنكليزية، فتوضب لتهرب على دفعات في مخابئها بسيارات التاكسي التي تجتاز الحدود التركية.

لكن الأمن الحدودي التركي الشديد الصرامة، ما أن كان يشكك في سيارة حتى يُحضِر رجالُه مقدحًا ضخمًا يبلغ طول ريشته نحو نصف متر، فيخرقون بها حديد السيارة في مواضع كثيرة للعثور على الذهب المهرب. وإذا لم يعثروا على شيء منه، يعتذرون من سائق السيارة، ويقولون له: يعطيك العافية، مع السلامة.

من طريق لبنان وقبرص وصوفيا
هذا التشدد التركي وكلفته الضخمة على السيارات المثقبة، والأبهظ ماليًا وقضائيًا وسجنًا في حال العثور على الذهب المهرب، حملا الصاغة والمهربين الحلبيين على تغيير وجهة عمليات تهريب ذهبهم، من تركيا إلى لبنان.

وروى راوي هذه الأخبار أن سائق سيارة تاكسي حلبي صديق لأهله في حلب، جاء ليطمئن عليه عندما كان الراوي شابًا يقيم في رأس بعلبك سنة 2009. فروى له السائق، فيما كان يصطحبه في سيارته قرب بلدة القاع الحدودية، شيئًا من ذكريات تهريب الذهب الحلبي إلى لبنان في ثمانينات القرن المنصرم. وما أن انعطفت السيارة إلى وهدة قرب القاع، حتى أومأ إليها السائق، وقال: هنا في هذه الوهدة كنت أخبئ رزم ليرات الذهب الإنكليزية في حفرة وأهيل عليها التراب، ليأخذها شخص محدد في شبكة التهريب وينقلها إلى بيروت.

وكان الذهب الحلبي يتجمع في بيروت وتنقله شبكات سائقي سيارات التاكسي الحلبية علنًا وبطرق مشروعة ومصرح عنها في الثمانينات ببواخر متجهة من المرافئ اللبنانية إلى قبرص. وينام ناقلو الذهب ليلة أو اثنتين في قبرص، منتظرين مواعيد إقلاع طائرات تتجه بهم وبذهبهم من مطار لارنكا إلى سويسرا، على أن تكون للطائرات محطة توقف ترانزيت في مطار صوفيا البلغاري، قبل معاودتها الإقلاع إلى سويسرا. وفي مطار صوفيا يكون في انتظار ناقلي الذهب الحلبي ضباط أمن بلغاريون متفق على علامات وإشارات محددة للتعارف بينهم وبين الحلبيين. فيتسلم الضباط البلغار رزم الذهب، كي تهربها شبكات محددة من بلغاريا إلى تركيا. أما ناقلو الذهب السوريون من قبرص إلى صوفيا، فيتابعون سفرهم إلى سويسرا التي يمضون فيها يومًا أو اثنين، قبل عودتهم بالطائرات إلى بيروت.

وختم الراوي أخباره هذه بخبر عن اصطحاب قريبه له مرة من حلب إلى دمشق لزيارة صديق في سجن عدرا الدمشقي. وكان ذاك السجين يمضي عقوبة سجنه، بعدما قبض عليه في عملية تهريب تبدأ عقوبتها بسنوات خمس، وقد تمتد إلى سنوات عشر من السجن، إضافة إلى الغرامات المالية الباهظة.. وما أدراك بحال السجين في عدرا.
(يتبع)

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها