السبت 2021/06/26

آخر تحديث: 13:04 (بيروت)

احتضار زراعة التبغ: دولارات المهاجرين تعفي من شقاء سنة

السبت 2021/06/26
احتضار زراعة التبغ: دولارات المهاجرين تعفي من شقاء سنة
"ما نتقاضاه ثمناً لمحصولنا لا يكفي لسداد ديوننا" (Getty)
increase حجم الخط decrease
بعد انتهاء الحرب الأهلية بداية تسعينيات القرن الماضي، اتخذت الحكومة اللبنانية قراراً بدعم زراعة التبغ وإعادة إحيائها لتنمية الأطراف، وتخفيف حدة النزوح نحو المدن، ودعم بقاء الجنوبيين في أرضهم، لئلا تحملهم الاعتداءات الإسرائيلية على النزوح. والأهم منع سكان الشريط المحتل من العمل داخل إسرائيل عبر تأمين بدائل لهم.

واليوم يعمل في زراعة التبغ حوالي 25 ألف عائلة يشكلون 75 ألف فرد، يتوزعون على مناطق لبنانية، ومعظمهم في الجنوب اللبناني.

الريجي والمصارف
أثّرت زراعة التبغ على نواحي الحياة في المجتمع الجنوبي، فغيرت نمط حياتهم لما تتطلبه من جهد ومشاركة العائلة بأكملها في الزراعة على مدار العام. أما اقتصادياً فقد لعبت شتلة التبغ دوراً مهماً في إنماء المناطق الريفية، فاستطاع جنوبيون تحسين مستوى معيشتهم وتعليم أولادهم ودفع نفقات دراستهم في الخارج. وزراعة التبغ تعتمد بشكل رئيسي على دعم الدولة. فيترواح سعر كيلوغرام التبغ عالمياً بين دولارين وأربع دولارات، بينما كانت شركة التبغ والتنباك اللبنانية (الريجي) تدفع ثمنه للمزارع اللبناني حوالي 12 ألف ليرة لبنانية، أي ما يعادل ثماني دولارات قبل الأزمة الحالية. والتبغ المزروع في لبنان، بحسب بيانات سابقة نشرتها الريجي، هو تبغ شرقي يحتوي على نسبة عالية من المواد المركزة، ولا يدخل في صناعة السجائر سوى بنسبة 5 في المئة، ما يجعل تصريفه صعباً.

في بداية الأزمة الاقتصادية سنة 2019 وانخفاض سعر صرف الليرة مقابل الدولار، ارتفعت كلفة زراعة التبغ على المزارع ارتفاعاً كبيراً. فالمواد المستخدمة في الزراعة تسعر وتُشترى بالدولار الأميركي. أما اليد العاملة فارتفعت أجورها. وإذا أردنا احتساب الحد الأدنى لكلفة زراعة دونم من التبغ (فلاحة الأرض، مياه، يد عاملة، شتول، أسمدة وكيماويات، أدوات زراعية) نجد أن الكلفة قد تضاعفت من مليون ليرة لبنانية في العام 2019 إلى مليوني ليرة في العام 2021. ويبلغ انتاج دونم التبغ 150 كلغ، كانت تشتريها الريجي بحوالى مليون و800 ألف ليرة  لبنانية، ورفعت شراءها إلى مليونين و800 ألف ليرة تقريباً، بعد إقرار الريجي هذه الزيادة الريجي العام الماضي. أي أن ربح المزارع لم يتغير، لكنه بات غير كاف لتغطية تكاليف حياته بعد انهيار سعر صرف الليرة.

العمالة السورية والكلفة
ويجمع مزارعو التبغ الذين قابلتهم "المدن" على أن الوضع مزر هذا العام. يقول حسن، أحد المزارعين في قضاء بنت جبيل: "عدد المزارعين الذين توقفوا عن الزراعة قليل جداً. لكن الأراضي المزروعة انخفضت بنسبة 50 في المئة. وأنا شخصياً زرعت دونمي أرض عوضاً عن ثمانية كنت أزرعها سابقاً". فمع بداية الموسم يرصد المزارع مبلغاً من المال لدفع تكاليف الزراعة. ومع ارتفاع التكاليف أصبح المزارعون عاجزين عن رصد ما يكفي لزراعة المساحة السابقة نفسها. فشطر كبير منهم كان يعتمد في بداية الموسم على تسليفات المصارف التي توقفت عن التسليف.

ولجأ المزارعون إلى استعمال مواد زراعية أرخص وأقل جودة. يقول حسن: "ارتفع سعر كيلو الكيماويات من النوعية الجيدة من 50 ألف ليرة إلى 450 ألف. لذا لجأنا إلى استعمال مواد أرخص بكلفة 200 ألف ليرة  للكيلو، والنتيجة انخفاض في كمية الانتاج ونوعيته". ويضيف: "90 في المئة من مشاتل التبغ مريضة بسبب استعمال أدوية رديئة للقضاء على البكتيريا وحماية جذور الشتول".

ويعمل المزارع ابراهيم قاسم من قرية عيترون في زراعة التبغ برفقة زوجته. وأصبح متعذراً عليه الاستعانة بالعمالة السورية التي باتت ضرورية في زراعة التبغ بسبب تقلص عدد أفراد العائلات. فتكلفة فريق عمل للمساعدة أصبح مرتفعاً. يضاف إلى ذلك انخفاض أعداد السوريين في الجنوب. ويقول ابراهيم للمدن: "من بقي من السوريين ابتعد عن العمل في زراعة التبغ، بسبب قلة المردود. لكننا لا نستطيع الدفع أكثر. فالسوريون يفضلون العمل بتنظيف المنازل أو مهن أخرى كالبناء".

شح المياه
وقلة المياه تشكل عائقاً رئيسياً للمزارعين في الجنوب. لكنها كانت أشد وطأة هذا العام. فبحسب ابراهيم: "شح المطر هذا العام باكراً. وحين ننظر إلى شتلات التبغ اليوم، نعلم أنها لن تصمد لفترة  طويلة. أي أنها تتوقف عن انتاج الورق وتيبس. وبعدما كان القطاف يستمر حتى أيلول أحياناً، فإنه يتوقف هذا العام في شهر تموز".

هذا الواقع يجعل يصعّب على المزارع الجنوبي الانتقال إلى زراعات بديلة. فالمياه المتوفرة بالكاد تكفي حاجات العائلة اليومية.  عدا عن المنافسة الشديدة في سوق الخضر والمعوقات الأخرى.

دولارات المهاجرين
في الموسم الماضي زادت الريجي سعر كيلوغرام التبغ بنسبة أقل من 50 في المئة (من 12 إلى 18 ألف ليرة). وهذه نسبة ضئيلة. ويعبر ابراهيم عن رفضه قائلاً": "هذه ضربة قاضية للمزارع". لذا يتجه معظم المزارعين إلى التوقف عن الزراعة. ويقول حسن: "نحن نبدأ موسمنا بالدين، ونستدين تكاليف الزراعة وثمن المواد الأولية بالدولار الأميركي. مع ارتفاع سعر الصرف خلال الموسم، يكون ما نتقاضاه ثمناً لمحصولنا لا يكفي لسداد ديوننا. وإذا كنت سأربح مئتي دولار من موسم التبغ - وهذا ما تظهره حساباتي - فأفضل أن أتوقف عن الزراعة".

فالأبناء الذين تعلموا في تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية، دفع أهلهم تكاليف تعليمهم وأقساط جامعاتهم في لبنان والخارج، من العمل في زراعة التبغ. وشطر كبير منهم أصبح اليوم من المغتربين: أطباء ومهندسون وتجار وأصحاب مهن أخرى. وهم يلعبون اليوم دوراً أساسياً في إعالة أهلهم المزارعين. بل يسددون ديونهم، بما يرسلونه شهرياً: بضع مئات من الدولارات، تعادل شقاء موسم كامل في زراعة التبغ.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها