الأحد 2021/05/30

آخر تحديث: 11:48 (بيروت)

سحر السيارات والمطاعم.. مهما جار الزمان على اللبنانيين وغَدَرَهم

الأحد 2021/05/30
سحر السيارات والمطاعم.. مهما جار الزمان على اللبنانيين وغَدَرَهم
السيارات كينوناتهم، والمطاعم كينونة أخرى لأمسياتهم التي تحملهم إليها السيارات (المدن)
increase حجم الخط decrease
للمطاعم والسيارات سحر دائم لا يزول في لبنان.


ويجتمع هذا السحر بهياً وعلى أشدّه في جزيرة تخلو إلا منه. وتقع الجزيرة خلف فندق فور سيزن، على تقاطعات الشوارع بين وادي أبو جميل ومنطقة الردم البحرية المستحدثة المتصلة بوسط بيروت.

ومن يرغب في تكحيل عينيه بأبهى مشاهد سحر مطاعم اللبنانيين وسياراتهم وأشدها فتكا، ما عليه إلا أن يمرَّ بين مغيب الشمس في الأفق البحري وبدايات المساء، عابراً في هذه الجزيرة الخاوية إلا من روادها الأبرار المميزين، المنتفخين بنرجسياتهم المتورمة المستفحلة المتلئة باللاشيء، مثل سياراهم وجلساتهم على أرصفة المطاعم - المقاهي.  


يصل رواد ورائدات تلك المطاعم الفسيحة الصالات والممتدة على الأرصفة أمامها، في سياراتهم/هن الفخمة اللامعة، فيترجلون ويترجلن منها، بعدما يفتح لهم ولهنَّ أبوابها جمعٌ من عمال خدمة الاستقبال في المطاعم، المكدّسين وقوفاً على الأرصفة وجنبات الشوارع المتقاطعة. وما أن تخلو السيارات المشرّعة الأبواب وسط الشارع من ركابها، يصعدُ إلى كل منها "فاليه باركنغ"، فيغلق عاملو خدمة الاستقبال أبوابها، ويقودها "الفاليه" ليركنها في "باركينغ" قريب، أو في مكان ما من الشوارع القريبة الخاوية، الخالية من المطاعم، والمنتصبة البنايات الفخمة العالية على جنباتها جامدة جموداً صنمياً خالصاً.

إنه المشهد المهرجاني الافتتاحي لسحر السيارات والمطاعم في هذه الجزيرة التي يقصدها لبنانيو الترف الاستعرضي المنفلت على غاربه، كسياراتهم الفخمة، المهيبة الفارهة، ومعظمها من طراز الدفع الرباعي. ويخال مُشاهِدُها ومُشاهد أصحابها أنها - مثل الكلاب البيتية - كائنات  تحظى بتربية وخدمات دائمة من خدَم المنازل والبيوت، وبينهم سائقون على الأرجح.


أصوات إغلاق أبواب هذه السيارات الثقيلة، البراقة "الخلنج" وأصداؤها، تترك سحراً معدنياً شجياً في أسماع صاحباتها وأصحابها، أصدقائهم وأهلهم وأشباههم وطبقتهم كلها، بمراتبها المحلية في لبنان وديار الاغتراب. وها هم وهنّ، مثل سيارتهم الحبيبة المعبودة المبتعدة في الشارع، يستمتعون ببهاء اللحظة الساحرة، يرحقونها من بقيّة بهجة الأناقة الروحية الوثيرة في فرش السيارات وتجهيزاتها. وعلى إسفلت الشارع وبلاطات الرصيف بين طاولات المطاعم، لا تلامس أقدامهم/هن الأرض ولا تمشي عليها، بل فوقها بسنتمرات في الهواء اختيالاً. تماماً مثلما قال نائب عوني زحلي إن عماده الرئيس قال لمريديه الأبرار الخلّص: أنتم - بعدما نفختُ فيكم شيئاً من عظمتي ونبوّتي - لا تمشون على الأرض، بل فوقها، كالمسيح الذي مشى على الماء.

لكن رواد مطاعم تقاطعات شوارع هذه الجزيرة البيروتية ورائداتها، لا يطيقون المشي، لا على الأرض ولا فوقها. فالمشي للبشر العاديين، بشر الأرض. أما هم وهن فلم يخلقن ولا خلقوا ليكونوا كائنات للمشي على الأقدام. لقد عقدوا ميثاقاً لبنانياً مع أنفسهم وأهلهم وعظمتهم والعالم كله، ليكونوا كائنات سيارات. السيارات كينوناتهم التي لا كينونة لهم بدونها. والمطاعم كينونة أخرى لأمسياتهم التي تحملهم إليها السيارات. يعبدون بهاء السيارات، طقوس السيارات الموصرلة بالمطاعم التي تجمع تناول الوجبات وتدخين النراجيل مع كأس من الكحول. ولا بدّ من سيجار في اليد، بين الأصابع المشرعة في الهواء، هنا في تقاطعات شوراع هذه الجزيرة الخاوية، شبه الخالية إلا منهم وعرضهم في المغيب والمساء والسهرة.


تطربهم فرادتهم التي تجمعهم وحدهم هنا في هذا الخلاء الوثير المترف بحضورهم. هم/هن نسخ بشرية متشابهة في حركاتهم وملبسهم وسحنات وجوههم وكلماتهم على الأرجح. وهم هنا في ناديهم اليومي المفضل، الخاص والمنفصل. وجاءوا إليه من فيلات وبيوت في الرابية والصيفي فيلدج، وبعض نواحي الأشرفية الأبراج السكنية البحرية في بيروت.

وفي غروب نهارٍ انتظرنا في سيارتنا الصغيرة وسط شارع المطاعم - المقاهي هذه دقائق طويلة كي تصعد كوكبة منهم إلى رانج روفر وقف كقلعة معدنية سوداء أمام سيارتنا. أبواب الرانج الأربعة مشرعة كلها، وترجّل منه "فاليه باركنغ" من دون أن يوقف تشغيل محركه، فيما تحلّق حول الرانج الأسود المشرع الأبواب عمال تشريفات الاستقبال وتشريفات الوداع على الرصيف. دقائق طويلة من انتظار ركاب الرانج كي يودعوا صحبهم المستمرين في جلستهم على رصيف المطعم. واصطفت خلف سيارتنا المنتظرة سيارتان أخريان تنتظران المرور. واستمرت الكوكبة المودعة المغادرة في تبادلها الكلمات والتحيات والابتسامات الأخيرة مع الكوكبة الجالسة حول طاولة على الرصيف. والتفت المودعون نحونا، لكنهم تصرفوا كما لو أنهم لم يبصرونا في السيارات الثلاث المتوقفة خلف رانج روفرهم العتيد، المشرّع الأبواب في انتظار تسلقهم إلى مقاعده. دوار سحر الصَّلف في رؤوسهم وفي الرانج روفر، يطوّح بهم، فيستمرون في تبادل الكلمات والتحيات. حتى عمال التشريفات على رصيف المطعم - المقهى لاحت منهم إلينا التفاتات معتذرة، كأنها من صلب عملهم المعتاد.


وفي غروب نهار آخر كانت سيارة غولف سبور سوداء تقف في المكان نفسه. ونحن في سيارتنا الصغيرة إياها ننتظر سيادة الغولف السبور البهيّة أن تتحرك، كي نمر. وانتظرنا دقائق حتى خرج سائقها منها متمهلاً، كأنه وحده في المكان وفي العالم كله. ثم خرجت من باب السيارة الآخر صبية بشعة الوجه بفستانها الأسود الطويل. وانتظر شاب الغولف المتمهل وصول الصبية البشعة إلى جانبه، فأمسك ذراعها، كأنما ليدخلان إلى صالة عرس. وصعدا إلى رصيف المطعم، وظلت سيارتهما واقفة في مكانها. ركض عامل الاستقبال نحو شاب الغولف، العريس المعانقة ذراعه ذراع الصبية البشعة، وطلب منه مفتاح السيارة، فأخرجه من جيب بنطلونه وناوله للعامل مبتسماً، وملتفتاً إلى سيارته الواقفة وسط الشارع، يناغيها قبل أن يسوقها الفاليه الباركنغ المنتظر مثلنا بصبر، ليقودها ويركنها بعيداً.


وروى المصور أنه استأذن مدير مطعم ليتقط صوراً لمطاعم الجزيرة النخبوية المميزة هذه، فقال له المدير إن روادها من عليّة القوم - أبناء نواب ووزراء وضباط كبار نافذين، بناتهم وزوجاتهم، ومعارفهم وأصدقاءهم وحاشياتهم - وأن عليه (على المصور) أن يصورهم من بعيد. وابتعد المصور مسافة من أرصفة المطاعم. وما أن شرع في التقاط صورة حتى فاجأه شخص يثياب مدنية، وقال له إنه من مخابرات الجيش، ومنعه من التصوير، معللاً الأمر أن مهمته مراقبة المكان، لأن رواد المطاعم سياسيون وأبناء سياسيين ومن كبار الضباط، والتصوير ممنوع في هذا المكان الخاص شبه الأمني. وذهب المصور إلى شارع آخر قريب، وعنما حاول التصوير، منعه عنصر في جهاز أمني بثياب مدنية.     

****

وفي السادسة من مساء نهار آخر، كنا متجهين إلى صيدا. فجأة زحمة سير خانقة على الأوتوستراد قبل أنفاق مدرجات المطار في خلدة. أمضينا نحو أكثر من نصف الساعة في الزحام، قبل تجاوزنا النفق. أرتال من السيارات المتجهة من بيروت إلى الجنوب. معظمها سيارات كبيرة، جديدة ومن الدفع الرباعي، مغلقة النوافذ، وليس في كل منها أكثر من راكب واحد إلى جانب سائقيها وسائقاتها. كثرة منهم ومنهن هواتفهم الخلوية في أيديهم، مشرعة بين أعينهم ومقاود السيارات التي تشتغل مكيفاتها. عزلات انتظار انفرادية في داخل السيارات المتحركة عجلاتها بطيئاً بطيئاً، ثم تتوقف دقيقة أو اثنتين في الزحام المعدني الشديد.


هنا أيضاً سحر السيارات البهي على أشده في الزحام، لكن بلا مطاعم.

سحر طوطمي يعصف بفئات واسعة من اللبنانيين، ولا سحر سواه يعصف بمخيلاتهم الحسيرة العسراء، أو يمكن الانسحار بغيره من شؤون الحياة وشجونها. كأنما السيارات في حياة اللبنانيين واللبنانيات مثال أعلى يعبدونه عبادة يتميزون بها عن سائر بشر هذا الكوكب. وهم لا يعبدونها ولا تسحرهم إلا إذا كانت كبيرة ومتينة ومفيّمة وفول أوبشن ومن طراز الدفع الرباعي. أما السيارات الصغيرة العادية أو المتواضعة فتحرم أصحابها وصاحباتها من دوار السحر المعبود في نمط حياة اللبنانيين، مهما جار عليهم الزمن وغدرهم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها